عطف على جملة ( قل إنما الآيات عند الله ) وهو ارتقاء في المجادلة .
والاستفهام تعجيبي إنكاري . والمعنى : وهل لا يكفيهم من الآيات آيات القرآن فإن كل مقدار من مقادير إعجازه آية على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فإن آيات القرآن زهاء ستة آلاف آية . ومقدار كل ثلاث آيات مقدار معجز فيحصل من القرآن مقدار ألفي معجزة وذلك لم يحصل لأحد من رسل الله .
والكتاب : القرآن . وعدل عن لفظ القرآن الذي هو كالعلم عليه إلى لفظ الكتاب المعهود لإيمائه إلى معنى تعظيمه بأنه المشتهر من بين كتب الأنبياء .
وجملة ( يتلى عليهم ) مستأنفة أو حال لأن الكتاب معلوم غير محتاج للوصف لما تشعر به مادة التلاوة من الانتشار والشيوع .
واختير المضارع دون الوصف بأن يقال : متلو عليهم لما يؤذن به المضارع من الاستمرار فحصل من مادة ( يتلى ) ومن صيغة المضارع دلالة على عموم الأمكنة والأزمنة .
وقد أشار قوله ( يتلى عليهم ) وما بعده إلى خمس مزايا للقرآن على غيره من المعجزات .
المزية الأولى : ما أشار إليه قوله ( يتلى عليهم ) من انتشار إعجازه وعمومه في المجامع والآفاق والأزمان المختلفة بحيث لا يختص بإدراك إعجازه فريق خاص في زمن خاص شأن المعجزات المشهودة مثل عصا موسى وناقة صالح وبرء الأكمه فهو يتلى ومن ضمن تلاوته الآيات التي تحدت الناس بمعارضته وسجلت عليهم عجزهم عن المعارضة من قبل محاولتهم إياها فكان كما قال فهو معجزة باقية والمعجزات الأخرى معجزات زائلة .
المزية الثانية : كونه مما يتلى فإن ذلك أرفع من كون المعجزات الأخرى أحوالا مرئية لأن إدراك المتلو إدراك عقلي فكري وهو أعلى من المدركات الحسية فكانت معجزة القرآن أليق بما يستقبل من عصور العلم التي تهيأت إليها الإنسانية .
المزية الثالثة : ما أشار إليه قوله ( إن في ذلك لرحمة ) فإنها واردة مورد التعليل للتعجيب من عدم اكتفائهم بالكتاب وفي التعليل تتميم لما اقتضاه التعبير بالكتاب وب ( يتلى عليهم ) فالإشارة ب ( ذلك ) إلى ( الكتاب ) ليستحضر بصفاته كلها وللتنويه به بما تقتضيه الإشارة من التعظيم . وتنكير ( رحمة ) للتعظيم أي لا يقادر قدرها .
فالكتاب المتلو مشتمل على ما هو رحمة لهم اشتمال الظرف على المظروف لأنه يشتمل على إقامة الشريعة وهي رحمة وصلاح للناس في دنياهم فالقرآن مع كونه معجزة دالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ومرشدة إلى تصديقه مثل غيره من المعجزات هو أيضا وسيلة علم وتشريع وآداب للمتلو عليهم وبذلك فضل غيره من المعجزات التي لا تفيد إلا تصديق الرسول الآتي بها .
المزية الرابعة : ما أشار إليه قوله ( وذكرى ) فإن القرآن مشتمل على مواعظ ونذر وتعريف بعواقب الأعمال وإعداد إلى الحياة الثانية ونحو ذلك مما هو تذكير بما في تذكره خير الدارين وبذلك فضل غيره من المعجزات الصامتة التي لا تفيد أزيد من كون الآتية على يديه صادقا .
A E المزية الخامسة : أن كون القران كتابا متلوا مستطاعا إدراك خصائصه لكل عربي ولكل من حذق العربية من غير العرب مثل أئمة العربية يبعده عن مشابهة نفثات السحرة والطلاسم فلا يستطيع طاعن أن يزعم أنه تخيلات كما قال قوم فرعون لموسى ( يا أيها الساحر ) وقال تعالى حكاية عن المشركين حين رأوا معجزة انشقاق القمر ( وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر ) فأشار قوله ( يعرضوا ) إلى أن ذلك القول صدر عنهم في معجزة مرئية .
وعلق بالرحمة والذكرى قوله ( لقوم يؤمنون ) للإشارة إلى أن تلك منافع من القرآن زائدة على ما في المعجزات الأخرى من المنفعة التي هي منفعة الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم .
فهذه مزايا عظيمة لمعجزة القرآن حاصلة في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم وغيبته ومستقلة عن الحاجة إلى بيانه وتكميله بالدعوة وبتكريرها .
واستحضار المؤمنين بعنوان ( قوم يؤمنون ) دون أن يقال : للمؤمنين لما في لفظ قوم من الإيماء إلى أن الإيمان من مقومات قوميتهم أي لقوم شعارهم أن يؤمنوا يعني لقوم شعارهم النظر والإنصاف فإذا قامت لهم دلائل الإيمان آمنوا ولم يكابروا ظلما وعلوا فالفعل مراد به الحال القريبة من الاستقبال . وفيه تعريض بالذين لم يكتفوا بمعجزته واقترحوا آيات أخرى لا نسبة بينه وبينها