والعلم الذي أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم هو النبوة كقوله تعالى ( ولقد آتينا داود وسليمان علما ) ومعنى الآية أن كونه في صدر النبي صلى الله عليه وسلم هو شأن كل ما ينزل من القرآن حين نزوله فإذا أنزل فإنه يجوز أن يخطه الكاتبون وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ كتابا للوحي فكانوا ربما كتبوا الآية في حين نزولها كما دل عليه حديث زيد بن ثابت في قوله تعالى ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر ) وكذلك يكون بعد نزوله متلوا فالمنفي هو أن يكون متلوا قبل نزوله . هذا الذي يقتضيه سياق الإضراب عن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يتلو كتابا قبل هذا القرآن بحيث يظن أن ما جاء به من القرآن مما كان يتلوه من قبل فلما انتفى ذلك ناسب أن يكشف عن حال تلقي القرآن فذلك هو موقع قوله ( في صدور الذين أوتوا العلم ) كما قال ( نزل به الروح الأمين على قلبك ) وقال ( كذلك لنثبت به فؤادك ) .
وأما الإخبار بأنه آيات بينات فذلك تمهيد للغرض وإكمال لمقتضاه ولهذا فالوجه أن يكون الجار والمجرور في قوله ( في صدور الذين أوتوا العلم ) خبرا ثانيا عن الضمير . ويلتئم التقدير هكذا : وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك بل هو ألقي في صدرك وهو آيات بينات .
ويجوز أن يكون المراد ب ( صدور الذين أوتوا العلم ) صدور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وحفاظ المسلمين وهذا يقتضي أن يكون قوله ( في صدور الذين أوتوا العلم ) تتميما للثناء على القرآن وأن الغرض هو الإخبار عن القرآن بأنه آيات بينات فيكون المجرور صفة ل ( آيات ) والإبطال مقتصر على قوله ( بل هو آيات بينات ) .
وجملة ( وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون ) تذييل يؤذن بأن المشركين جحدوا آيات القرآن على ما هي عليه من وضوح الدلالة على أنها من عند الله لأنهم ظالمون لا إنصاف لهم وشأن الظالمين جحد الحق يحملهم على جحده هوى نفوسهم للظلم كما قال تعالى ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ) فهم متوغلون في الظلم كما تقدم في وصفهم بالكافرين والمبطلين .
( وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين [ 50 ] ) لما ذكر الجاحدين لآية القرآن ثلاث مرات ووصفهم بالكافرين والمبطلين والظالمين انتقل الكلام إلى مقالتهم الناشئة عن جحودهم وذلك طلبهم أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بآيات مرئية خارقة للعادة تدل على أن الله خلقها تصديقا للرسول كما خلق ناقة صالح وعصا موسى . وهذا من خلافتهم أن لا يتأثروا إلا للأمور المشاهدة وهم يحسبون أن الرسول E ينتصب للمعاندة معهم فيهم يقترحون عليه ما يرغبونه ليجعلوا ما يسألونه من الخوارق حديث النوادي حتى يكون محضر الرسول E فيهم كمحضر المشعوذين وأصحاب الخنقطرات . وقد قدمت بيان هذا الوهم عند قوله تعالى ( وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه ) في سورة الأنعام .
ومعنى ( عند الله ) أنها من عمل القدرة الذي يجري على وفق إرادته تعالى فلكونها منوطة بإرادته شبهت بالشيء المحفوظ عند مالكه .
A E وأفادت ( إنما ) قصر النبي E على صفة النذارة أي الرسالة لا يتجاوزها إلى خلق الآيات أو اقتراحها على ربه فهو قصر إفراد ردا على زعمهم أن من حق الموصوف بالرسالة أن يأتي بالخوارق المشاهدة .
والمعنى : أنه لا يسلم أن التبليغ يحتاج إلى الإتيان بالخوارق على حسب رغبة الناس واقتراحهم حتى يكونوا معذورين في عدم تصديق الرسول إذا لم يأتهم بآية حسب اقتراحهم .
وخص بالذكر من أحوال الرسالة وصف النذير تعريضا بالمشركين بأن حالهم يقتضي الإنذار وهو توقع الشر .
والمبين : الموضح للإنذار بالدلائل العقلية الدالة على صدق ما يخبر به .
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب ( آيات ) . وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف ( آية ) . والجمع والإفراد في هذا سواء لأن القصد إلى الجنس فالآية الواحدة كافية في التصديق .
( أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون [ 51 ] )