تفريع على جملة ( إن الذي فرض عليك القرآن ) وما عطف عليها وما تخلل بينهما مما اقتضى جميعه الوعد بنصره وظهور أمره وفوزه في الدنيا والآخرة وأنه جاء من الله إلى قوم هم في ضلال مبين وأن الذي رحمه فآتاه الكتاب على غير ترقب منه لا يجعل أمره سدى فأعقب ذلك بتحذيره من أدنى مظاهرة للمشركين فإن فعل الكون لما وقع في سياق النهي وكان سياق النهي مثل سياق النفي لأن النهي أخو النفي في سائر تصاريف الكلام كان وقوع فعل الكون في سياقه مفيدا تعميم النهي عن كل كون من أكوان المظاهرة للمشركين .
والظهير : المعين . والمظاهرة : المعونة وهي مراتب أعلاها النصرة وأدناها المصانعة والتسامح لأن في المصانعة على المرغوب إعانة لراغبه . فلما شمل النهي جميع أكوان المظاهرة لهم اقتضى النهي عن مصانعتهم والتسامح معهم وهو يستلزم الأمر بضد المظاهرة فيكون كناية عن الأمر بالغلظة عليهم كصريح قوله تعالى ( واغلظ عليهم ) . وهذا المعنى يناسب كون الآيات آخر ما نزل قبل الهجرة وبعد متاركته المشركين ومغادرته الذي يعمرونه .
وقيل النهي للتهييج لإثارة غضب النبي ( ص ) عليهم وتقوية داعي شدته معهم . ووجه تأويل النهي بصرفه عن ظاهره أو عن بعض ظاهره هو أن المنهي عنه لا يفرض وقوعه من الرسول ( ص ) حتى ينهى عنه فكان ذلك قرينة على أنه مؤول .
A E وتوجيه النهي إليه عن أن يصدوه عن آيات الله في قوله ( ولا يصدنك عن آيات الله ) كناية عن نهيه عن أن يتقبل منهم ما فيه صد عن آيات الله كما يقول العرب : لا أعرفنك تفعل كذا كنوا به عن : أنه لا يفعله . فيعرف المتكلم الناهي فعله . والمقصود : تحذير المسلمين من الركون إلى الكافرين في شيء من شؤون الإسلام فإن المشركين يحاولون صرف المسلمين عن سماع القرآن ( وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) .
وقيل هو للتهييج أيضا وتأويل هذا النهي أكد من تأويل قوله ( فلا تكونن ظهيرا للكافرين ) .
ويجوز أن يكون النهي في ( لا يصدنك ) نهي صرفة كما كان الأمر في قوله ( فقال لهم الله موتوا ) أمر تكوين . فالمعنى : أن الله قد ضمن لرسوله صرف المشركين عن أن يصدوه عن آيات الله وذلك إذ حال بينه وبينهم بأن أمره بالهجرة ويسرها له وللمسلمين معه .
والتقييد بالبعدية في قوله ( بعد إذ أنزلت إليك ) لتعليل النهي أياما كان المراد منه أي يجوز أن يصدوك عن آيات الله بعد إذ أنزلها عليك فإنه ما أنزلها إليك بطلا وعبثا كقوله تعالى ( من بعد ما جاءتهم البينات ) .
والأمر في قوله ( وادع إلى ربك ) مستعمل في الأمر بالدوام على الدعوة إلى الله لا إلى إيجاد الدعوة لأن ذلك حاصل أي لا يصرفك إعراض المشركين عن إعادة دعوتهم إعذارا لهم .
ويجوز أن يكون الدعاء مستعملا في الأكمل من أنواعه أي أنك بعد الخروج من مكة أشد تمكنا في الدعوة إلى الله مما كنت من فبل لأن تشغيب المشركين عليه كان يرنق صفاء تفرغه للدعوة .
وجميع هذه النواهي والأوامر داخلة في حيز التفريع بالفاء في قوله ( فلا تكونن ظهيرا للكافرين ) .
أما قوله ( ولا تكونن من المشركين ) فإن حملت ( من ) فيه على معنى التبعيض كان النهي مؤولا يمثل ما أولوا به النهيين اللذين قبله أنه للتهييج أو أن المقصود به المسلمون .
( ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون [ 88 ] ) هذا النهي موجه إلى النبي ( ص ) في الظاهر والمقصود به إبطال الشرك وإظهار ضلال أهله إذ يزعمون أنهم معترفون بإلهية الله تعالى وأنهم إنما اتخذوا له شركاء وشفعاء فبين لهم أن الله لا إله غيره وأن انفراده بالإلهية في نفس الأمر يقضي ببطلان الإشراك في الاعتقاد ولو أضعف إشراك فجملة ( لا إله إلا هو ) في معنى العلة للنهي الذي في الجملة قبلها .
وجملة ( كل شيء هالك إلا وجهه ) علة ثانية للنهي لأن هلاك الأشياء التي منها الأصنام وكل ما عبد مع الله وأشرك به دليل على انتفاء الإلهية عنها لأن الإلهية تنافي الهلاك وهو العدم .
والوجه مستعمل في معنى الذات . والمعنى : كل موجود هالك إلا الله تعالى . والهلاك : الزوال والانعدام