ويجوز أن يراد بالمعاد معناه المشهود القريب من الحقيقة . وهو ما يعود إليه المرء إن غاب عنه فيراد هنا بلده الذي كان به وهو مكة . وهذا الوجه يقتضي انه كناية عن خروجه منه ثم عوده إليه لأن الرد يستلزم المفارقة . وإذ قد كانت السورة مكية ورسول الله ( ص ) في مكة فالوعد بالرد كناية عن الخروج منه قبل أن يرد عليه . وقد كان النبي ( ص ) أري في النوم أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل كما في حديث البخاري وكان قال له ورقة بن نوفل : يا ليتني أكون معك إذ يخرجك قومك وغن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا فما كان ذلك كله ليغيب عن علم رسول الله ( ص ) على أنه قد قيل : إن هذه الآية نزلت عليه وهو في الجحفة في طريقه إلى الهجرة كما تقدم في أول السورة فوعد بالرد عليها وهو دخوله إليها فاتحا لها ومتمكنا منها . فقد روي عن ابن عباس تفسير المعاد بذلك وكلا الوجهين يصح أن يكون مرادا على ما تقرر في المقدمة التاسعة .
ثم تكون جملة ( قل ربي أعلم من جاء بالهدى ) بالنسبة إلى الوجه الأول بمنزلة التفريع على جملة ( لرادك إلى معاد ) أي رادك إلى يوم المعاد فمظهر المهتدي والضالين فيكون علم الله بالمهتدي والضال مكنى به عن اتضاح الأمر بلا ريب لأن علم الله تعالى لا يعتريه تلبيس وتكون هذه الكناية تعريضا بالمشركين أنهم الضالون . وأن النبي ( ص ) هو المهتدي .
A E ولهذه النكتة عبر عن جانب المهتدي بفعل ( من جاء ) للإشارة إلى أن المهتدي هو الذي جاء بهدي لم يكن معروفا من قبل كما يقتضيه : جاء بكذا وعبر عن جانب الضالين بالجملة الاسمية المقتضية ثبات الضلال المشعر بان الضلال هو أمرهم القديم الراسخ فيهم مع ما أفاده حرف الظرفية من انغماسهم في الضلال وإحاطته بهم . ويكون المعنى حينئذ على حد قوله تعالى ( وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) لظهور أن المبلغ لهذا الكلام لا يفرض في حقه أن يكون هو الشق الضال فيتعين أن الضال من خالفه .
وبالنسبة إلى الوجه الثاني تكون بمنزلة الموادعة والمتاركة وقطع المجادلة . فالمعنى : عد عن إثبات هداك وضلالهم وكلهم إلى يوم ردك إلى معادك يوم يتبين أن الله نصرك وخذلهم . وعلى المعنيين فجملة ( قل ربي أعلم ) مستأنفة استئنافا بيانيا عن جملة ( إن الذي فرض عليك القرآن ) جوابا لسؤال سائل يثيره أحد المعنيين .
وفي تقديم جملة ( إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ) على جملة ( قل ربي أعلم من جاء بالهدى ) إعداد لصلاحية الجملة الثانية للمعنيين المذكورين . فهذا من الدلالة على معاني الكلام بمواقعه وترتيب نظامه وتقديم الجمل عن مواضع تأخيرها لتوفير المعاني .
( وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك ) عطف على جملة : ( إن الذي فرض عليك القرآن ) الخ باعتبار ما تضمنته من الوعد بالثواب الجزيل أو بالنصر المبين أي كما حملك تبليغ القرآن فكان ذلك علامة على أنه أعد لك الجزاء بالنصر في الدنيا والآخرة . كذلك إعطاؤه إياك الكتاب عن غير ترقب منك بل بمحض رحمة ربك أي هو كذلك في أنه علامة لك على أن الله لا يترك نصرك على أعدائك فإنه ما اختارك لذلك إلا لأنه أعد لك نصرا مبينا وثوابا جزيلا .
وهذا أيضا من دلالة الجملة على معنى غير مصرح به بل على معنى تعريضي بدلالة موقع الجملة .
وإلقاء الكتاب إليه وحيه به إليه . أطلق عليه اسم الإلقاء على وجه الاستعارة كما تقدم في قوله تعالى : ( فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون وألقوا إلى الله يومئذ السلم ) في سورة النحل .
والاستثناء في ( إلا رحمة من ربك ) استثناء منقطع لأن النبي ( ص ) لم يخامر نفسه رجاء أن يبعثه الله بكتاب من عنده بل كان ذلك مجرد رحمة من الله تعالى به واصطفاء له .
( فلا تكونن ظهيرا للكافرين [ 86 ] ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين [ 87 ] )