( من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون [ 84 ] ) تتنزل جملة ( من جاء بالحسنة ) منزلة بدل الاشتمال لجملة ( والعاقبة للمتقين ) لأن العاقبة ذات أحوال من الخير ودرجات من النعيم وهي على حسب ما يجيء به المتقون من الحسنات فتفاوت درجاتهم بتفاوتها .
وفي اختيار فعل ( جاء ) في الموضعين هنا إشارة إلى أن المراد من حضر بالحسنة ومن حضر بالسيئة يوم العرض على الحساب . ففيه إشارة إلى أن العبرة بخاتمة الأمر وهي مسألة الموافاة . وأما اختيار فعل ( عملوا ) في قوله ( الذين عملوا السيئات ) فلما فيه من التنبيه على أن عملهم هو علة جزائهم زيادة في التنبيه على عدل الله تعالى .
ومعنى ( فله خير منها ) أن كل حسنة تحتوي على خير لا محالة يصل إلى نفس المحسن أو إلى غيره فللجائي بالحسنة خير أفضل مما في حسنته من الخير أو فله من الله إحسان عليها خير من الإحسان الذي في الحسنة قال تعالى في آيات أخرى ( فله عشر أمثالها ) أي فله من الجزاء حسنات أمثالها وهو تقدير بعلمه الله .
ولما ذكر جزاء الإحسان أعقب بضد ذلك مقابلة فضل الله تعالى على المحسن بعدله مع المسيء على عادة القرآن من قرن الترغيب بالترهيب .
A E ( ومن جاء بالسيئة ) ما صدقه الذين عملوا السيئات و ( الذين عملوا السيئات ) الثاني هو عين ( من جاء بالسيئة ) فكان المقام مقام الإضمار بأن يقال : ومن جاء بالسيئة فلا يجزون الخ ؛ ولكنه عدل عن مقتضى الظاهر لأن في التصريح بوصفهم ب ( عملوا السيئات ) تكريرا لإسناد عمل السيئات إليهم لقصد تهجين هذا العمل الذميم وتبغيض السيئة إلى قلوب السامعين من المؤمنين .
وفي قوله ( إلا ما كانوا يعملون ) استثناء مفرغ عن فعل ( يجزى ) المنفي المفيد بالنفي عموم أنواع الجزاء والمستثنى تشبيه بليغ أي جزاء شبيه الذي كانوا يعملونه . والمراد المشابهة والمماثلة في عرف الدين أي جزاء وفاقا لما كانوا يعملون وجاريا على مقداره لا حيف فيه وذلك موكول إلى العلم الإلهي .
( إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين [ 85 ] ) ابتداء كلام للتنويه بشأن محمد ( ص ) وتثبيت فؤاده ووعده بحسن العاقبة في الدنيا والآخرة وإن إنكار أهل الضلال رسالته لا يضيره لأن الله أعلم بأنه على هدى وأنهم على ضلال بعد أن قدم لذلك من أحوال رسالة موسى عليه السلام ما فيه عبرة بالمقارنة بين حالي الرسولين وما لقياه من المعرضين .
وافتتاح الكلام بحرف التأكيد للاهتمام به .
وجيء بالمسند إليه اسم موصول دون اسمه تعالى العلم لما في الصلة من الإيماء إلى وجه بناء الخبر . وأنه خبر الكرامة والتأييد أي أن الذي أعطاك القرآن ما كان إلا مقدرا نصرك وكرامتك ؛ لأن إعطاء القرآن شيء لا نظير له فهو دليل على كمال عناية الله بالمعطى . قال كعب بن زهير : .
مهلا هداك الذي أعطاك نافلة ال ... قرآن فيها مواعيظ وتفصيل وفيه إيماء إلى تعظيم شأن الرسول ( ص ) .
ومعنى ( فرض عليك القرآن ) اختاره لك من قولهم : فرض له كذا إذا عين له فرضا أي نصيبا . ولما ضمن ( فرض ) معنى ( أنزل ) لأن فرض القرآن هو إنزاله عدي فرض بحرف ( على ) .
والرد : إرجاع شيء إلى حاله أو مكانه . والمعاد : اسم مكان العود أي الأول كما يقتضيه حرف الانتهاء . والتنكير في ( معاد ) للتعظيم كما يقتضيه مقام الوعد والبشارة وموقعهما بعد قوله ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) أي إلى معاد أي معاد .
والمعاد يجوز أن يكون مستعملا في معنى آخر أحوال الشيء وقراره الذي لا انتقال منه تشبيها بالمكان العائد إليه بعد أن صدر منه أو كناية عن الأخارة فيكون مرادا به الحياة الآخرة . قال ابن عطية : وقد اشتهر يوم القيامة بالمعاد نه معاد الكل اه . أي فأبشر بما تلقى في معادك من الكرامة التي لا تعادلها كرامة والتي لا تعطى لأحد غيرك . فتنكير ( معاد ) أفاد أنه عظيم الشأن وترتبه على الصلة أفاد أنه لا يعطى لغيره مثله كما أن القرآن لم يفرض على أحد مثله