والفرح يطلق على السرور كما في قوله تعالى ( وفرحوا بها ) في يونس . ويطلق على البطر والإزدهاء وهو الفرح المفرط المذموم وتقدم في قوله تعالى ( وفرحوا بالحياة الدنيا ) في سورة الرعد وهو التمحض للفرح . والفرح المنهي عنه هو المفرط منه أي الذي تمحض للتعلق بمتاع ولذات النفس به لأن الانكباب على ذلك يميت من النفس الاهتمام بالأعمال الصالحة والمنافسة لاكتسابها فينحدر به التوغل في الإقبال على اللذات إلى حضيض الإعراض عن الكمال النفساني والاهتمام بالآداب الدينية فحذف المتعلق بالفعل لدلالة المقام على أن المعنى لا تفرح بلذات الدنيا معرضا عن الدين والعمل للآخرة كما أفصح عنه قوله ( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ) . وأحسب أن الفرح إذا لم يعلق به شيء دل على أنه صار سجية الموصوف فصار مرادا به العجب والبطر . وقد أشير إلى بيان المقصود تعضيدا لدلالة المقام بقوله ( إن الله لا يحب الفرحين ) أي المفرطين في الفرح فإن صيغة ( فعل ) صيغة مبالغة مع الإشارة إلى تعليل النهي فالجملة علة للتي قبلها والمبالغة في الفرح تقتضي شدة الإقبال على ما يفرح به وهي تستلزم الإعراض عن غيره فصار النهي عن شدة الفرح رمزا إلى الإعراض عن الجد والواجب في ذلك .
وابتغاء الدار الآخرة طلبها أي طلب نعيمها وثوابها . وعلق بفعل الابتغاء قوله ( فيما آتاك الله ) بحرف الظرفية أي اطلب بمعظمه وأكثره . والظرفية مجازية للدلالة على التغلغل ابتغاء الدار الآخرة في ما آتاه الله وما آتاه هو كنوز المال فالظرفية هنا كالتي في قوله تعالى ( وارزقوهم فيها واكسوهم ) أي منها ومعظمها وقول سبرة بن عمرو الفقعسي : .
نحابي بها أكفاءنا ونهينها ... ونشرب في أثمانها ونقامر أي أطلب بكنوزك أسباب حصول الثواب بالإنفاق منها في سبيل الله وما أوجبه ورغب فيه من القربان ووجوه البر .
( ولا تنس نصيبك من الدنيا ) جملة معترضة بين الجملتين الحافتين بها والواو اعتراضية .
والنهي في ( ولا تنس نصيبك ) مستعمل في الإباحة . والنسيان كناية عن الترك كقوله في حديث الخيل ( ولم ينس حق الله في رقابها ) أي لا نلومك على أن تأخذ نصيبك من الدنيا أي الذي لا يأتي على نصيب الآخرة . وهذا احتراس في الموعظة خشية نفور الموعوظ من موعظة الواعظ لأنهم لما قالوا لقارون ( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ) أوهموا أن يترك حظوظ الدنيا فلا يستعمل ماله إلا في القربات فأفيد أن له استعمال بعضه في ما هو متمحض لنعيم الدنيا إذا آتى حق الله في أمواله . فقيل : أرادوا أن لك أن تأخذ ما أحل الله لك .
والنصيب : الحظ والقسط وهو فعيل من النصب لأن ما يعطى لأحد ينصب له ويميز وإضافة النصيب إلى ضميره دالة على أنه حقه وأن للمرء الانتفاع بماله في ما يلائمه في الدنيا خاصة مما ليس من القربات ولم يكن حراما . قال مالك : في رأيي معنى ( ولا تنس نصيبك من الدنيا ) تعيش وتأكل وتشرب غير مضيق عليك . وقال قتادة : نصيب الدنيا هو الحلال كله . وبذلك تكون هذه الآية مثالا لاستعمال صيغة النهي لمعنى الإباحة . و ( من ) للتبغيض . والمراد بالدنيا نعيمها . فالمعنى : نصيبك الذي هو بعض نعيم الدنيا .
( وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين [ 77 ] ) الإحسان داخل في عموم ابتغاء الدار الآخرة ولكنه ذكر هنا ليبني عليه الاحتجاج بقوله ( كما أحسن الله إليك ) .
والكاف للتشبيه و ( ما ) مصدرية أي كإحسان الله إليك والمشبه هو الإحسان المأخوذ من ( احسن ) أي إحسانا شبيها بإحسان الله إليك . ومعنى الشبه : أن يكون الشكر على كل نعمة من جنسها . وقد شاع بين النحاة تسمية هذه الكاف كاف التعليل ومثلها قوله تعالى ( واذكروه كما هداكم ) . والتحقيق أن التعليل حاصل من معنى التشبيه وليس معنى مستقلا من معاني الكاف .
وحذف متعلق الإحسان لتعميم ما يحسن إليه فيشمل نفسه وقومه ودوابه ومخلوقات الله الداخلة في دائرة التمكن من الإحسان إليها . وفي الحديث ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء ) فالإحسان في كل شيء بحسبه والإحسان لكل شيء بما يناسبه حتى الأذى المأذون فيه فبقدره ويكون بحسن القول وطلاقة الوجه وحسن اللقاء .
A E