ولما كانت ( أما ) تفيد التفصيل وهو التفكيك والفصل بين شيئين أو أشياء في حكم فهي مفيدة هنا أن غير المؤمنين خاسرون في الآخرة وذلك ما وقع الإيماء إليه بقوله ( فهم لا يتساءلون ) فإنه يكتفي بتفصيل أحد الشيئين عن ذكر مقابله ومنه قوله تعالى ( فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ) أي وأما الذين كفروا بالله فبضد ذلك .
والتوبة هنا : الإقلاع عن الشرك والندم على تقليده . وعطف الإيمان عليها لأن المقصود حصول إقلاع عن عقائد الشرك وإحلال عقائد الإسلام محلها ولذلك عطف عليه ( وعمل صالحا ) لأن بعض أهل الشرك كانوا شاعرين بفساد دينهم وكان يصدهم عن تقلد شعائر الإسلام أسباب مغرية من الأعراض الزائلة التي فتنوا بها .
و ( عسى ) ترج لتمثيل حالهم بحال من يرجى منه الفلاح . و ( أن يكون من المفلحين ) أشد في إثبات الفلاح من : أن يفلح كما تقدم غير مرة .
( وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة ) هذا من تمام الاعتراض وهي جملة ( فأما من تاب وآمن وعمل صالحا ) وظاهر عطفه على ما قبله أن معناه آيل إلى التفويض إلى حكمة الله تعالى في خلق قلوب منفتحة للاهتداء ولو بمراحل وقلوب غير منفتحة له فهي قاسية صماء وأنه الذي اختار فريقا على فريق . وفي أسباب النزول للواحدي ( قال أهل التفسير نزلت جوابا للوليد بن المغيرة حين قال فيما أخبر الله عنه ( وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) اه . يعنون بذلك الوليد بن المغيرة من أهل مكة وعروة بن مسعود الثقفي من أهل الطائف . وهما المراد بالقريتين . وتبعه الزمخشري وابن عطية . فإذا كان اتصال معناها بقوله ( ماذا أجبتم المرسلين ) فإن قولهم ( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) هو من جملة ما أجابوا به دعوة الرسول A . والمعنى : أن الله يخلق ما يشاء من خلقه من البشر وغيرهم ويختار من بين مخلوقاته لما يشاء مما يصلح له جنس ما منه الاختيار ومن ذلك اختياره للرسالة من يشاء إرساله وهذا في معنى قوله ( الله أعلم حيث يجعل رسالاته ) وأن ليس ذلك لاختيار الناس ورغباتهم ؛ والوجهان لا يتزاحمان .
والمقصود من الكلام هو قوله ( ويختار ) فذكر ( يخلق ما يشاء ) إيماء إلى أنه أعلم بمخلوقاته .
وتقديم المسند إليه على خبره الفعلي يفيد القصر في هذا المقام إن لوحظ سبب النزول أي ربك وحده لا أنتم تختارون من يرسل إليكم .
وجوز أن يكون ( ما ) من قوله ( ما كان لهم الخيرة ) موصولة مفعولا لفعل ( يختار ) وأن عائد الموصول مجرور ب ( في ) محذوفين . والتقدير : ويختار ما لهم فيه الخير أي يختار لهم من الرسل ما يعلم أنه صالح بهم لا ما يشتهونه من رجالهم .
وجملة ( ما كان لهم الخيرة ) استئناف مؤكد لمعنى القصر لئلا يتوهم أن الجملة قبله مفيدة مجرد التقوي . وصيغة ( ما كان ) تدل على نفي للكون يفيد أشد مما يفيد لو قيل : ما لهم الخيرة كما تقدم في قوله تعالى ( وما كان ربك نسيا ) في سورة مريم .
والابتداء بقوله ( وربك يخلق ما يشاء ) تمهيد للمقصود وهو قوله ( ويختار ما كان لهم الخيرة ) أي كما أن الخلق من خصائصه فكذلك الاختيار .
والخيرة بكسر الخاء وفتح التحتية : اسم لمصدر الاختيار مثل الطيرة اسم لمصدر التطير . قال ابن الأثير : ولا نظير لهما . وفي اللسان ما يوهم أن نظيرهما : سبي طيبة إذا لم يكن فيه غدر ولا نقض عهد . ويحتمل أنه أراد التنظير في الزنة لا في المعنى لأنها زنة نادرة .
A E واللام في ( لهم ) للملك أي ما كانوا يملكون اختيارا في المخلوقات حتى يقولوا ( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) . ونفي الملك عنهم مقابل لقوله ( ما يشاء ) لأن ( ما يشاء ) يفيد معنى ملك الاختيار .
وفي ذكر الله تعالى بعنوان كونه ربا للنبي A إشارة إلى أنه اختاره لأنه وخالفه فهو قد علم استعداده لقبول رسالته .
( سبحان الله وتعالى عما يشركون [ 68 ] )