ووجه خامس عندي : أن يكون المراد بالعذاب عذاب الدنيا والكلام على حذف مضاف تقديره : ورأوا آثار العذاب . والرؤية بصرية أي وهم رأوا العذاب في حياتهم أي رأوا آثار عذاب الأمم الذين كذبوا الرسل وهذا في معنى قوله تعالى في سورة إبراهيم ( وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم ) ؛ وجملة ( لو أنهم كانوا يهتدون ) أي بالاتعاظ وبالاستدلال بحلول العذاب في الدنيا على أن وراءه عذابا أعظم منه لاهتدوا فأقلعوا عن الشرك وصدقوا النبي A . وهذا لأنه يفيد معنى زائدا على ما أفادته جملة ( فلم يستجيبوا لهم ) . فهذه عدة معان يفيدها لفظ الآية وكلها مقصود فالآية من جوامع الكلم .
( ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين [ 65 ] فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون [ 66 ] ) هو يوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون . كرر الحديث عنه باعتبار تعدد ما يقع فيه لأن مقام الموعظة يقتضي الإطناب في تعداد ما يستحق به التوبيخ . وكررت جملة ( يوم يناديهم ) لأن التكرار من مقتضيات مقام الموعظة . وهذا توبيخ لهم على تكذيبهم الرسل بعد انقضاء توبيخهم على الإشراك بالله .
والمراد : ماذا أجبتم المرسلين في الدعوة إلى توحيد الله وإبطال الشركاء . والمراد ب ( المرسلين ) محمد A كما في قوله تعالى في سورة سبأ ( فكذبوا رسلي ) . وله نظائر في القرآن منها قوله ( ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا ) يريد محمدا A في سورة يونس وقوله ( كذبت قوم نوح المرسلين ) الآيات في سورة الشعراء وإنما كذب كل فريق من أولئك رسولا واحدا . والذي اقتضى صيغة الجمع أن جميع المكذبين إنما كذبوا رسلهم بعلة استحالة رسالة البشر إلى البشر فهم إنما كذبوا بجنس المرسلين ولام الجنس إذا دخلت على ( جميع ) أبطلت منه معنى الجمعية .
والاستفهام ب ( ماذا ) صوري مقصود منه إظهار بلبلتهم . و ( ذا ) بعد ( ما ) الاستفهامية تعامل معاملة الموصول أي ما الذي أجبتم المرسلين أي ما جوابكم . والأنباء : جمع نبأ وهو الخبر عن أمر مهم والمراد به هنا الجواب عن سؤال ( ماذا أجبتم المرسلين ) لأن ذلك الجواب إخبار عما وقع منهم مع رسلهم في الدنيا .
والمعنى : عميت الأنباء على جميع المسؤولين فسكتوا كلهم ولم ينتدب زعماؤهم للجواب كفعلهم في تلقي السؤال السابق : ( أين شركائي الذين كنتم تزعمون ) .
ومعنى ( عميت ) خفيت عليهم وهو مأخوذ من عمى البصر لأنه يجعل صاحبه لا يتبين الأشياء فتصرفت من العمى معان كثيرة متشابهة يبينها تعدية الفعل كما عدي منا بحرف ( على ) المناسب للخفاء . ويقال : عمي عليه الطريق . إذا لم يعرف ما يوصل منه قال عبد الله بن رواحة : .
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع والمعنى : خفيت عليهم الأنباء ولم يهتدوا إلى جواب وذلك من الحيرة والوهل فإنهم لما نودوا ( أين شركائي الذين كنتم تزعمون ) انبرى رؤساؤهم فلفقوا جوابا عدلوا به عن جادة الاستفهام إلى إنكار أن يكونوا هم الذين سنوا لقومهم عبادة الأصنام فلما سئلوا عن جواب دعوة الرسول A عيوا عن الجواب فلم يجدوا مغالطة لأنهم لم يكونوا مسبوقين من سلفهم بتكذيب الرسول فإن الرسول بعث إليهم أنفسهم .
A E ولهذا تفرع على ( فعميت عليهم الأنباء ) قوله ( فهم لا يتساءلون ) أي لا يسأل بعضهم بعضا لاستخراج الآراء وذلك من شدة البهت والبغت على الجميع أنهم لا متنصل لهم من هذا السؤال فوجموا .
وإذ كان الاستفهام لتمهيد أنهم محقوقون بالعذاب علم من عجزهم عن الجواب عنه أنهم قد حق عليهم العذاب .
( فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين [ 67 ] ) تخلل بين حال المشركين ذكر حال الفريق المقابل وهو فريق المؤمنين على طريقة الاعتراض لأن الأحوال تزداد تميزا بذكر أضدادها والفاء للتفريع على ما أفاده قوله ( فعميت عليهم الأنباء ) من أنهم حق عليهم العذاب