وجملة ( تبرأنا إليك ) استئناف . والتبرؤ : تفعل من البراءة وهي انتفاء ما يصم فالتبرؤ : معالجة إثبات البراءة وتحقيقها . وهو يتعدى إلى من يحاول إثبات البراءة لأجله بحرف ( إلى ) الدال على الانتهاء المجازي ؛ يقال : إني أبرأ إلى الله من كذا أي أوجه براءتي إلى الله كما يتعدى إلى الشيء الذي يصم بحرف ( من ) على اسم ذات باعتبار مضاف مقدر نحو قوله تعالى ( وقال إني بريء منكم ) أي من كفركم . والتقدير : من أعمالكم وشؤونكم إما من أعمال خاصة يدل عليها المقام أو من عدة أعمال .
فالمعنى هنا تحقق التبرؤ لديك والمتبرأ منه هو مضمون جملة ( ما كانوا إيانا يعبدون ) فهي بيان لإجمال التبرؤ .
والمقصود : أنهم يتبرأون من أن يكونوا هم المزعوم أنهم شركاء وإنما قصارى أمرهم أنهم مضلون وكان هذا المقصد إلجاء من الله إياهم ليعلنوا تنصلهم من إدعاء أنهم شركاء على رؤوس الملأ أو حملهم على ذلك ما يشاهدون من فظاعة عذاب كل من ادعى المشركون له الإلهية باطلا لما سمعوا قوله تعالى ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ) . هذا ما انطوت عليه هذه الآية من المعاني .
وتقديم ( إيانا ) على ( يعبدون ) دون أن يقال يعبدوننا للاهتمام بهذا التبرؤ مع الرعاية على الفاصلة .
( وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون [ 64 ] ) هذا موجه إلى جميع الذين نودوا بقوله ( اين شركائي الذين كنتم تزعمون ) فإن ذلك النداء كان توبيخا لهم على اتخاذهم آلهة شركاء لله تعالى . فلما شعروا بالمقصد من ندائهم وتصدى كبراؤهم للاعتذار عن اتخاذهم أتبع ذلك بهذا القول .
وأسند فعل القول إلى المجهول لأن الفاعل معلوم مما تقدم أي وقال الله . والأمر مستعمل في الإطماع لتعقب الإطماع باليأس .
وإضافة الشركاء إلى ضمير المخاطبين لأنهم الذين ادعوا لهم السركة كما في آية الأنعام ( الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ) . والدعاء دعاء الاستغاثة حسب زعمهم أنهم شفعاؤهم عند الله في الدنيا . وقوله ( فلم يستجيبوا لهم ) هو محل التأييس المقصود من الكلام .
وأما قوله تعالى ( ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون ) فيحتمل معاني كثيرة فرضها المفسرون ؛ وجماع أقوالهم فيها أخذا وردا أن نجمعها في أربعة وجوه : أحدها : أن يكون عطفا على جملة ( فلم يستجيبوا لهم ) . والرؤية بصرية والعذاب عذاب الآخرة أي أحضر لهم آلة العذاب ليعلموا أن شركاءهم لا يغنون عنهم شيئا . وعلى هذا تكون جملة ( لو أنهم كانوا يهتدون ) مستأنفة ابتدائية مستقلة عن جملة ( ورأوا العذاب ) .
الثاني : أن تكون الواو للحال والرؤية أيضا بصرية والعذاب عذاب الآخرة أي وقد رأوا العذاب فارتبكوا في الاهتداء إلى سبيل الخلاص فقيل لهم : ادعوا شركاءكم لخلاصكم وتكون جملة ( لو أنهم كانوا يهتدون ) كذلك مستأنفة ابتدائية .
الثالث : أن تكون الرؤية علمية وحذف المفعول الثاني اختصارا والعذاب عذاب الآخرة . والمعنى : وعلموا العذاب حائقا بهم والواو للعطف أو الحال . وجملة ( لو أنهم كانوا يهتدون ) مستأنفة استئنافا بيانيا كأن سائلا سأل : ماذا صنعوا حين تحققوا أنهم معذبون ؟ فأجيب بأنهم لو أنهم كانوا يهتدون سبيلا لسلكوه ولكنهم لا سبيل لهم إلى النجاة .
A E وعلى هذه الوجوه الثلاثة تكون ( لو ) حرف شرط وجوابها محذوفا دل عليه حذف مفعول ( يهتدون ) أي يهتدون خلاصا أو سبيلا . والتقدير : لتخلصوا منه . وعلى الوجوه الثلاثة ففعل ( كانوا ) مزيد في الكلام لتوكيد خبر ( أن ) أي لو أنهم يهتدون اهتداء متمكنا من نفوسهم وفي ذلك إيماء أنهم حينئذ لا قرارة لنفوسهم . وصيغة المضارع في ( يهتدون ) دالة على التجدد فالاهتداء منقطع منهم وهو كناية عن عدم الاهتداء من أصله .
الوجه الرابع : أن تكون ( لو ) للتمني المستعمل في التحسر عليهم . والمراد اهتداؤهم في حياتهم الدنيا كيلا يقعوا في هذا العذاب وفعل ( كانوا ) حينئذ في موقعه الدال على الاتصاف بالخبر في الماضي وصيغة المضارع في ( يهتدون ) لقصد تجدد الهدى المتحسر على فواته عنهم فإن الهدى لا ينفع صاحبه إلا إذا استمر إلى آخر حياته