والمراد بإهلاك القرى إهلاك أهلها . وإنما علق الإهلاك بالقرى للإشارة إلى أن شدة الإهلاك بحيث يأتي على الأمة وأهلها وهو الإهلاك بالحوادث التي لا تستقر معها الديار بخلاف إهلاك الأمة فقد يكون بطاعون ونحوه فلا يترك أثرا في القرى .
وإسناد الخبر إلى الله بعنوان ربوبيته للنبي A إيماء إلى أن المقصود بهذا الإنذار هم أمة محمد الذين كذبوا فالخطاب للنبي عليه السلام لهذا المقصد . ولهذا وقع الالتفات عنه إلى ضمير المتكلم في قوله ( آياتنا ) للإشارة إلى أن الآيات من عند الله وأن الدين دين الله .
وضمير ( عليهم ) عائد إلى المعلوم من القرى وهو أهلها كقوله ( واسأل القرية التي كنا فيها ) ومنه قوله ( فليدع ناديه ) .
وقد حصل في هذه الجملة تفنن في الأساليب إذ جمعت الاسم الظاهر وضمائر الغيبة والخطاب والتكلم .
ثم بين السبب بقوله ( وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ) أي ما كان من عادتنا في عبادنا أن نهلك أهل القرى في حالة ظلمهم أنفسهم بالإشراك فالإشراك سبب الإهلاك وإرسال رسول شرطه فيتم ظلمهم بتكذيبهم الرسول .
وجملة ( وأهلها ظالمون ) في موضع الحال وهو حال مستثنى من أحوال محذوفة اقتضاها الاستثناء المفرغ أي ما كنا مهلكي القرى في حال إلا في حال ظلم أهلها .
( وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون [ 60 ] ) لما ذكرهم الله بنعمه عليهم تذكيرا أدمج في خلال الرد على قولهم ( إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا ) بقوله ( تجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ) أعقبه بأن كل ما أوتوه من نعمة هو من متاع الحياة الدنيا كالأمن والرزق ومن زينتها كاللباس والأنعام والمال وأما ما عند الله من نعيم الآخرة من ذلك وأبقى لئلا يحسبوا أن هم فيه من الأمن والرزق هو الغاية المطلوبة فلا يتطلبوا ما به تحصيل النعيم العظيم الأبدي وتحصيله بالإيمان . ولا يجعلوا ذلك موازنا لاتباع الهدى وإن كان في اتباع الهدى تفويت ما هم فيه من أرضهم وخيراتها لو سلم ذلك . هذا وجه مناسبة هذه الآية لما قبلها .
و ( من شيء ) بيان ل ( ما أوتيتم ) والمراد من أشياء المنافع كما دل عليه المقام لأن الإيتاء شائع في إعطاء ما ينفع .
وقد التفت الكلام من الغيبة من قوله ( أو لم نمكن لهم حرما ) إلى الخطاب في قوله ( أوتيتم ) لأن ما تقدم من الكلام أوجب توجيه التوبيخ مواجهة إليهم .
والمتاع : ما ينتفع به زمنا ثم يزول .
والزينة : ما يحسن الأجسام .
والمراد بكون ما عند الله خيرا أن أجناس الآخرة خير مما أوتوه في كمال أجناسها وأما كونه أبقى فهو بمعنى الخلود .
وتفرع على هذا الخبر استفهام توبيخي وتقريري على عدم عقل المخاطبين لأنهم لما لم يستدلوا بعقولهم على طريق الخير نزلوا منزلة من أفسد عقله فسئلوا : أهم كذلك ؟ .
وقرأ الجمهور ( تعقلون ) بتاء الخطاب . وقرأ أبو عمرو ويعقوب ( يعقلون ) بياء الغيبة على الالتفات عن خطابهم لتعجب المؤمنين من حالهم وقيل : لأنهم لما كانوا لا يعقلون نزلوا منزلة الغائب لبعدهم عن مقام الخطاب .
( أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين [ 61 ] ) A E أحسب أن موقع الفريع هنا أن مما أومأ إليه قوله ( وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا ) ما كان المشركون يتبجحون به على المسلمين من وفرة الأموال ونعيم الترف حين كان معظم المسلمين فقراء ضعفاء قال تعالى ( وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين ) أي منعمين وقال ( وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا ) فيظهر من آيات القرآن أن المشركين كان من دأبهم التفاخر بما هم فيه من النعمة قال تعالى ( واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين ) وقال ( وأرجعوا إلى ما أترفتم فيه ) فلما أنبأهم الله بأن ما هم فيه من الترف إن هو إلا متاع قليل قابل ذلك بالنعيم الفائق الخالد الذي أعد للمؤمنين وهي تفيد مع ذلك تحقيق معنى الجملة التي قبلها لأن الثانية زادت الأولى بيانا بأن ما أتوه زائل زوالا معوضا بضد المتاع والزينة وذلك قوله ( ثم هو يوم القيامة من المحضرين )