والبطر : التكبر . وفعله قاصر من باب فرح فانتصاب ( معيشتها ) بعد ( بطرت ) على تضمين ( بطرت ) معنى ( كفرت ) لأن البطر وهو التكبر يستلزم عدم الاعتراف بما يسدى إليه من الخير .
والمراد : بطرت حالة معيشتها أي نعمة عيشها .
والمعيشة هنا اسم مصدر بمعنى العيش والمراد حالته فهو على حذف مضاف دل عليه المقام ويعلم أنها حالة حسنة من قوله ( بطرت ) وهي حالة الأمن والرزق .
والإشارة ب ( تلك ) إلى ( مساكنهم ) الذي بين به اسم الإشارة لأنه في قوة تلك المساكن . وبذلك صارت الإشارة إلى حاضر في الذهن منزل منزلة الحاضر بمرأى السامع ولذلك فقوله ( لم تسكن من بعدهم ) خبر عن اسم الإشارة . والتقدير : فمساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا .
والسكنى : الحلول في البيت ونحوه في الأوقات المعروفة بقصد الاستمرار زمنا طويلا .
ومعنى ( لم تسكن من بعدهم ) لم يتركوا فيها خلفا لهم . وذلك كناية عن انقراضهم عن بكرة أبيهم .
وقوله ( إلا قليلا ) احتراس أي إلا إقامة المارين بها المعتبرين بهلاك أهلها .
وانتصب ( قليلا ) على الاستثناء من عموم أزمان محذوفة . والتقدير : إلا أزمانا قليلا أو على الاستثناء من مصدر محذوف . والتقدير : لم تسكن سكنا إلا سكنا قليلا والسكن القليل : هو مطلق الحلول بغير نية إطالة فهي إلمام لا سكنى . فإطلاق السكنى على ذلك مشاكلة ليتأتى الاستثناء أي لم تسكن إلا حلول المسافرين أو إناخة المنتجين مثل نزول جيش غزوة تبوك بحجر ثمود واستقائهم من بئر الناقة . والمعنى : فتلك مساكنهم خاوية خلاء لا يعمرها عامر أي أن الله قدر بقاءها خالية لتبقى عبرة وموعظة بعذاب الله في الدنيا .
وبهذه الآية يظهر تأويل قول النبي A حين مر في طريقه إلى تبوك بحجر ثمود فقال : ( لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبك مثل ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين ) أي خائفين أي اقتصار على ضرورة المرور لئلا يتعرضوا إلى تحقق حقيقة السكنى التي قدر الله انتفاءها بعد قومها فربما قدر إهلاك من يسكنها تحقيقا لقدره .
وجملة ( وكنا نحن الوارثين ) عطف على جملة ( لم تسكن من بعدهم ) وهو يفيد أنها لم تسكن من بعدهم فلا يحل فيها قوم آخرون بعدهم فعبر عن تداول السكنى بالإرث على طريقة الاستعارة .
وقصر إرث تلك المساكن على الله تعالى حقيقي أي لا يرثها غيرنا . وهو كناية عن حرمان تلك المساكن من الساكن . وتلك الكناية رمز إلى شدة غضب الله تعالى على أهلها الأولين بحيث تجاوز غضبه الساكنين إلى نفس المساكن فعاقبها بالحرمان من بهجة المساكين سكانها فإن كمال الموجودات هو به قوام حقائقها .
( وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلوا عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون [ 59 ] ) أعقب الاعتبار بالقرى المهلكة ببيان أشراط هلاكها وسببه استقصاء للإعذار لمشركي العرب فبين لهم أن ليس من عادة الله تعالى أن يهلك القرى المستأهلة الإهلاك حتى يبعث رسولا في القرية الكبرى منها لأن القرية الكبرى هي مهبط أهل القرى والبوادي المجاورة لها فلا تخفى دعوة الرسول فيها ولأن أهلها قدوة لغيرهم في الخير والشر فهم أكثر استعدادا لإدراك الأمور على وجهها فهذا بيان أشراط الإهلاك .
والقرى : هي المنازل لجماعات من الناس ذوات البيوت المبنية وتقدم عند قوله تعالى ( إذ قلنا ادخلوا هذه القرية ) في البقرة .
وخصت بالذكر لأن العبرة بها أظهر لأنها إذا أهلكت بقيت آثارها وأطلالها ولم ينقطع خبرها من الأجيال الآتية بعدها ويعلم أن الحلل والخيام مثلها بحكم دلالة الفحوى .
A E وإفراغ النفي في صيغة ما كان فاعلا ونحوه من صيغ الجحود يفيد رسوخ هذه العدة واطرادها كما تقدم في نظائره منها قوله تعالى ( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم ) في سورة آل عمران وقوله ( وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ) في سورة يونس .
وقرى بلاد العرب كثيرة مثل مكة وجدة ومنى والطائف ويثرب وما حولها من القرى وكذلك قرى اليمن وقرى البحرين . وأم القرى هي القرية العظيمة منها وكانت مكة أعظم بلاد العرب شهرة وأذكرها بينهم وأكثرها مارة وزوارا لمكان الكعبة فيها والحج لها