وحكاية إيمانهم بالمضي في قوله ( آمنا به ) مع أنهم يقولون ذلك عند أول سماعهم القرآن : إما لأن المضي مستعمل في إنشاء الإيمان مثل استعماله في صيغ العقود وإما للإشارة إلى أنهم آمنوا به من قبل نزوله أي آمنوا بأنه سيجيء رسول بكتاب مصدق لما بين يديه يعني إيمانا إجماليا يعقبه إيمان تفصيلي عند سماع آياته . وينظر إلى هذا المعنى قوله ( إنا كنا من قبله مسلمين ) أي مصدقين بمجيء رسول الإسلام .
ويجوز أن يراد ب ( مسلمين ) موحدين مصدقين بالرسل فإن التوحيد هو الإسلام كما قال إبراهيم ( فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) .
وجملة ( إنه الحق من ربنا ) في موقع التعليل لجملة ( آمنا به ) .
وجملة ( إنا كنا من قبله مسلمين ) بيان لمعنى ( آمنا به ) .
( أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون [ 54 ] وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين [ 55 ] ) التعبير عنهم باسم الإشارة منا للتنبيه على أنهم أحرياء بما سيذكر بعد اسم الإشارة من أجل الأوصاف التي ذكرت قبل اسم الإشارة مثل ما تقدم في قوله ( أولئك على هدى من ربهم ) في سورة البقرة .
وعد الله لهم سبع خصال من خصال أهل الكمال : إحداها أخروية وهي ( يؤتون أجرهم مرتين ) أي أنهم يؤتون أجرين على إيمانهم أي يضاعف لهم الثواب لأجل أنهم آمنوا بكتابهم من قبل ثم آمنوا بالقرآن فعبر عن مضاعفة الأجر ضعفين بالمرتين تشبيها للمضاعفة بتكرير الإيتاء وإنما هو إيتاء واحد .
وفائدة هذا المجاز 'ظهار العناية حتى كأن المثيب يعطى ثم يكرر عطاءه ففي ( يؤتون أجرهم مرتين ) تمثيلة . وفي الصحيح عن أبي موسى أن رسول الله A قال " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدركني فآمن بي واتبعني وصدقني فله أجران وعبد مملوك أدى حق الله تعالى وحق سيده فله أجران ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها ثم أدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران " . رواه الشعبي وقال لعطاء الخراساني : خذه بغير شيء فقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة .
والثانية : الصبر والصبر من أعظم خصال البر وأجمعها للمبرات وأعونها على الزيادة والمراد بالصبر صبرهم على أذى أهل ملتهم أو صبرهم على أذى قريش وهذا يتحقق في مثل الوفد الحبشي . ولعلهم المراد من هذه الآية ولذلك أتبع بقوله ( ويدرؤون بالحسنة السيئة ) وقوله ( وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم ) .
والخصلة الثالثة : درؤهم السيئة بالحسنة وهي من أعظم خصال الخير وأدعاها إلى حسن المعاشرة قال تعالى ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) فيحصل بذلك فائدة دفع مضرة المسيء عن النفس وإسداء الخير إلى نفس أخرى فهم لم يردوا جلافة أبي جهل بمثلها ولكن بالإعراض مع كلمة حسنة وهي ( سلام عليكم ) .
وأما الإنفاق فلعلهم كانوا ينفقون على فقراء المسلمين بمكة وهو الخصلة الرابعة ولا يخفى مكانها من البر .
A E والخصلة الخامسة : الإعراض عن اللغو وهو الكلام العبث الذي لا فائدة فيه وهذا الخلق من مظاهر الحكمة إذ لا ينبغي للعاقل أن يشغل سمعه ولبه بما لا جدوى له وبالأولى يتنزه عن أن يصدر منه ذلك .
والخصلة السادسة : الكلام الفصل وهو قولهم ( لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم ) وهذا من أحسن ما يجاب السفهاء وهو أقرب لإصلاحهم وأسلم من تزايد سفههم .
ولقد أنطقهم الله بحكمة جعلها مستأهلة لأن تنظم في سلك الإعجاز فألهمهم تلك الكلمات ثم شرفها بأن حكيت في نسج القرآن كما ألهم عمر قوله ( عسى ربه إن طلقكن ) الآية .
ومعنى ( لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ) أن أعمالنا مستحقة لنا كناية عن ملازمتهم إياها وأما قولهم ( ولكم أعمالكم ) فهو تتميم على حد ( لكم دينكم ولي دين )