والمراد بالظالمين : الكاملون في الظلم وهو ظلم الأنفس وظلم الناس وأعظمه الإشراك وإتيان الفواحش والعدوان فإن الله لا يخلق في نفوسهم الاهتداء عقابا منه على ظلمهم فهم باقون في الضلال يتخبطون فيه فهم أضل الضالين وهم مع ذلك متفاوتون في انتفاء هدى الله عنهم على تفوتهم في التصلب في ظلمهم ؛ فقد يستمر أحدهم زمانا على ضلاله ثم يقدر الله له الهدى فيخلق في قلبه الإيمان . ولأجل هذا التفاوت في قابلية الإقلاع عن الضلال استمرت دعوة النبي A إياهم الإيمان في عموم المدعوين إذ لا يعلم إلا الله مدى تفاوت الناس لقبول الهدى فالهدى المنفي عن أن يتعلق بهم هنا هو الهدى التكويني .
وأما الهدى بمعنى الإرشاد فهو من عموم الدعوة . وهذا معنى قول الأئمة من الأشاعرة أن الله يخاطب بالإيمان من يعلم أنه لا يؤمن مثل أبي جهل لأن التعلق التكويني غير التعلق التشريعي .
و ( بين هواه ) و ( هدى ) جناس محرف وجناس خط .
( ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون [ 51 ] ) عطف على جملة ( ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم ) الآية وما عطف عليها من قوله ( فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى ) .
والتوصيل : مبالغة في الوصل وهو ضم بعض الشيء إلى بعض يقال : وصل الحبل إذا ضم قطعه بعضها إلى بعض فصار حبلا .
والقول المراد به القرآن قال تعالى ( إنه لقول فصل ) وقال ( إنه لقول رسول كريم ) فالتعريف للعهد أي القول المعهود . وللتوصيل أحوال كثيرة فهو باعتبار ألفاظه وصل بعضه ببعض ولم ينزل جملة واحدة وباعتبار معاينة وصل أصنافا من الكلام وعدا ووعيدا وترغيبا وترهيبا وقصصا ومواعظ وعبرا ونصائح يعقب بعضها بعضا وينتقل من فن إلى فن وفي كل ذلك عون على نشاط الذهن للتذكر والتدبر .
واللام و ( قد ) كلاهما للتأكيد ردا عليه إذ جهلوا حكمة تنجيم نزول القرآن وذكرت لهم حكمة تنجيمه هنا بما يرجع إلى فائدتهم بقوله ( لعلهم يذكرون ) . وذكر في آية سورة الفرقان حكمة أخرى راجعة إلى فائدة الرسول A بقوله ( وقالوا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ) وفهم من ذلك أنهم لم يتذكروا .
وضمير ( لهم ) عائد إلى المشركين .
( الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون [ 52 ] وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين [ 53 ] ) لما أفهم قوله ( لعلهم يتذكرون ) أنهم لم يفعلوا ولم يكونوا عند رجاء الراجي عقب ذلك بهذه الجملة المستأنفة استئنافا بيانيا لأنها جواب لسؤال من يسأل هل تذكر غيرهم بالقرآن أو استوى الناس في عدم التذكر به . فأجيب بأن الذين أوتوا الكتاب من قبل نزول القرآن يؤمنون به إيمانا ثابتا .
والمراد بالذين أوتوا الكتاب طائفة معهودة من أهل الكتاب شهد الله لهم بأنهم يؤمنون بالقرآن ويتدبرونه وهم بعض النصارى ممن كان بمكة مثل روقة بن نوفل وصهيب وبعض يهود المدينة مثل عبد الله بن سلام ورفاعة بن رفاعة القرظي ممن بلغته دعوة النبي A قبل أن يهاجر النبي إلى المدينة فلما هاجر أظهروا إسلامهم .
A E وقيل : أريد بهم وفد من نصارى الحبشة اثنا عشر رجلا بعثهم النجاشي لاستعلام أمر النبي A بمكة فجلسوا إلى النبي A فآمنوا به وكان أبو جهل وأصحابه قريبا منهم يسمعون إلى ما يقولون فلما قاموا من عند النبي A تبعهم أبو جهل ومن معه فقال لهم : خيبكم الله من ركب وقبحكم من وفد لم تلبثوا أن صدقتموه فقالوا : سلام عليكم لم نأل أنفسنا رشدا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم . وبه ظهر أنهم لما رجعوا أسلم النجاشي وقد أسلم بعض نصارى الحبشة لما وفد إليهم أهل الهجرة إلى الحبشة وقرأوا عليهم القرآن وأفهموهم الدين .
وضمير ( من قبله ) عائد إلى القول من ( ولقد وصلنا لهم القول ) وهو القرآن . وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في ( وهم به يؤمنون ) لتقوي الخبر . وضمير الفصل مقيد للقصر الإضافي أي هم يوقنون بخلاف هؤلاء الذين وصلنا لهم القول .
ومجيء المسند مضارعا للدلالة على استمرار إيمانهم وتجدده