وأتت على دحض مطاعنهم وتعللاتهم وتوركهم بمختلف الأدلة قياسا وتمثيلا وثبت الله رسوله بضروب من التثبيت ابتداء من قوله ( إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا ) وقوله ( فتوكل على الله إنك على الحق المبين ) وما صاحب ذلك من ذكر ما لقيه الرسل السابقون . بعد ذلك كله استؤنف الكلام استئنافا يكون فذلكة الحساب وختاما للسورة وفصل الخطاب أفسد به على المشركين ازدهاءهم بما يحسبون أنهم أفحموا الرسول A بما ألقوه عليه ويطير غراب غرورهم بما نظموه من سفسطة وجاءوا به من خلبطة ويزيد الرسول تثبيتا وتطمينا بأنه أرضى ربه بأداء أمانة التبليغ وذلك بأن أمر الرسول عليها الصلاة والسلام أن يقول لهم ( إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها ) فهذا تلقين للرسول A . والجملة مقول قول محذوف دل عليه ما عطف عليه في هذه الآية مرتين وهو ( فقل إنما أنا من المنذرين وقل الحمد لله ) فإن الأول مفرع عليه فهو متصل به والثاني معطوف على أول الكلام .
A E وافتتاح الكلام بأداة الحصر لإفادة حصر إضافي باعتبار ما تضمنته محاوراتهم السابقة من طلب تعجيب الوعيد وما تطاولوا به من إنكار الحشر .
والمعنى : ما أمرت بشيء مما تبتغون من تعيين أجل الوعيد ولا من اقتلاع إحالة البعث من نفوسكم ولا بما سوى ذلك إلا بأن أثبت على عبادة رب واحد وأن أكون مسلما وأن أتلو القرآن عليكم ففيه البراهين الساطعة والدلالات القاطعة فمن اهتدى فلا يمن علي اهتداءه وإنما نفع به نفسه ؛ ومن صل فما أنا بقادر على اهتدائه ولكني منذره كما أنذرت الرسل أقوامها فلم يملكوا لهم هديا حتى أهلك الله الضالين . وهذا في معنى قوله تعالى ( فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن ) .
وقد أدمج من خلال هذا تنويها بشأن مكة وتعريضا بهم بكفرهم بالذي أسكنهم بها وحرمها فانتفعوا بتحريمها وأشعرهم بأنهم لا يملكون تلك البلدة فكاشفهم الله بما تكنه صدورهم من خواطر إخراج الرسول A والمؤمنين من مكة وذلك من جملة ما اقتضاه قوله ( إن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون ) .
فلهذه النكت أجرى على الله صلة حرم تلك البلدة دون أن يكون الموصول للبلدة فلذا لم يقل : التي حرمها الله لما تتضمنه الصلة من التذكير بالنعمة عليهم ومن التعريض بظلالهم إذ عبدوا أصناما لا تملك من البلدة شيئا ولا أكسبتها فضلا ومزية وهذا كقوله ( فليعبدوا رب هذا البيت ) .
والإشارة إلى البلدة التي هم بها لأنها حاضرة لديهم بحضور ما هو باد منها للأنظار . والإشارة إلى البقاع بهذا الاعتبار فاشية قال تعالى ( وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ) وقال ( إنا مهلكوا أهل هذه القرية ) .
والعدول عن ذكر مكة باسمها العلم إلى طريقة الإشارة لما تقتضيه الإشارة من التعظيم .
وتبيين أسم الإشارة بالبلدة لأن بهاء التأنيث اسم لطائفة من الأرض معينة معروفة محوزة فيشمل مكة وما حولها إلى نهاية حدود الحرم . ومعنى ( حرمها ) جعلها حراما والحرام الممنوع والتحريم المنع . ويعلم متعلق المنع بسياق ما يناسب الشيء الممنوع . فالمراد من تحريم البلدة تحريم أن يدخل فيها ما يضاد صلاحها وصلاح ما بها من ساكن ودابة وشجر . فيدخل في ذلك منع غزو أهلها والاهتداء عليهم وظلمهم وإخافتهم ومنع صيدها وقطع شجرها على حدود معلومة . وهذا التحريم مما أوحى الله به إلى إبراهيم عليه السلام إذ أمره بأن يبني بيتا لتوحيده وباستجابته لدعوة إبراهيم إذ قال ( رب اجعل هذا بلدا آمنا ) .
فالتحريم يكون كمالا للمحرم ويكون نقصا على اختلاف اعتبار سبب التحريم وصفته فتحريم الزمان والمكان مزية وتفضيل وتحريم الفواحش والميتة والدم والخمر تحقير لها والمحرمات للنسل والرضاع والصهر زيادة في الحرمة .
فتحريم المكان : منع ما يضر بالحال فيه . وتحريم الزمان كتحريم الأشهر الحرم : منع ما فيه ضر للموجودين فيه .
وتعقيب هذا بجملة ( وله كل شيء ) احتراس لئلا يتوهم من إضافة ربوبيته إلى البلدة اقتصار ملكه عليها ليعلم أن تلك الإضافة لتشريف المضاف إليه لا لتعريف المضاف بتعيين مظهر ملكه