والجامدة : الساكنة قاله أبن عباس . وفي الكشاف : الجامدة من جمد في مكانه إذا لم يبرح يعني أنه جمود مجازي كثر استعمال هذا المجاز حتى ساوى الحقيقة . والصنع قال الراغب : إجادة الفعل فكل صنع فعل وليس كل فعل صنعا قال تعالى ( ويصنع الفلك ) ( وعلمناه صنعة لبوس لكم ) يقال للحاذق المجيد : صنع وللحذاقة المجيدة : صناع اه . وقصر في تفسير الصنع الجوهري وصاحب اللسان وصاحب القاموس واستدراكه في تاج العروس . قلت : وأما قوله : بئس ما صنعت فهو على معنى التخطئة لمن ظن أنه فعل فعلا حسنا ولم يتفطن لقبحه . فالصنع إذا أطلق انصراف للعمل الجيد النافع وإذا أريد غير ذلك وجب تقييده على أنه قليل أو تهكم أو مشاكلة .
A E واعلم أن الصنع يطلق على العلم المتقن في الخير أو الشر قال تعالى ( تلقف ما صنعوا إن ما صنعوا كيد ساحر ) ووصف الله ب ( الذي أتقن كل شيء ) تعميم قصد به التذليل أي ما هذا الصنع العجيب إلا مماثلا لأمثاله من الصنائع الإلهية الدقيقة الصنع . وهذا يقتضي أن تسيير الجبال نظام متقن وأنه من نوع التكوين والخلق واستدامة النظام وليس من الخرم والتفكيك .
وجملة ( إنه خبير بما تفعلون ) تذييل أو اعتراض في آخر الكلام للتذكير والوعظ والتحذير عقب قوله ( الذي أتقن كل شيء ) لأن إتقان الصنع أثر من آثار سعة العلم فالذي بعلمه أتقن كل شيء هو خبير بما يفعل الخلق فليحذروا أن يخالفوا عن أمره .
ثم جيء لتفصيل هذا بقوله ( من جاء بالحسنة ) الآية فكان من التخلص والعود إلى ما يحصل يوم ينفخ في الصور ومن جعلوا أمر الجبال من أحداث يوم الحشر جعلوا جملة ( إنه خبير بما تفعلون ) استئنافا بيانيا لجواب سائل : فماذا يكون بعد النفخ والفزع والحضور بين يدي الله وتسيير الجبال فأجيب جوابا إجماليا بأن الله عليم بأفعال الناس ثم فصل بقوله ( من جاء بالحسنة فله خير منها . . ) الآية .
وقرأ الجمهور ( بما تفعلون ) بتاء الخطاب . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ( يفعلون ) بياء الغائبين عائدا ضميره على ( من في السماوات ومن في الأرض ) .
( من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون [ 89 ] ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار ) هذه الجملة بيان ناشئ عن قوله ( ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ) لأن الفزع مقتض الحشر والحور للحساب . و ( من ) في كلتا الجملتين شرطية .
والمجيء مستعمل في حقيقته . والباء في ( بالحسنة ) و ( بالسيئة ) للمصاحبة المجازية ومعناها : أنه ذو الحسنة أو ذو السيئة . وليس هذا كقوله ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها ) في آخر الأنعام . فالمعنى هنا : من يجيء يومئذ وهو من فاعلي الحسنة ومن جاء وهو من أهل السيئة فالمجيء ناظر إلى قوله ( وكل أتوه داخرين ) والحسنة والسيئة هنا للجنس وهو يحمل على أكمل أفراده في المقام الخطابي أي من تمحضت حالته للحسنات أو كانت غالب أحواله كما يقتضيه قوله ( وهم من فزع يومئذ آمنون ) وكذلك الذي كانت حالته متمحضة للسيئات أو غالبة عليه كما اقتضاه قوله ( فكبت وجوههم في النار ) .
و ( خير منها ) اسم تفضيل اتصلت به ( من ) التفضيلية أي فله جزاء خير من حسنة واحدة لقوله تعالى في الآية الأخرى ( فله عشر أمثالها ) أو خير منها شرفا لأن الحسنة من فعل العبد والجزاء عليها من عطاء الله .
وقوله ( وهم من فزع يومئذ آمنون ) تبيين قوله آنفا ( إلا من شاء الله ) وهؤلاء هم الذين كانوا أهل الحسنات أي تمحضوا لها أو غلبت على سيئاتهم غلبة عظيمة بحيث كانت سيئاتهم من النوع المغفور بالحسنات أو المدحوض بالتوبة ورد المظالم . وكذلك قوله ( ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار ) أي غلبت سيئاتهم وغطت على حسناتهم أو تمحضوا للسيئات بأن كانوا غير مؤمنين أو كانوا من المؤمنين أهل الجرائم والشقاء . وبين أهل هاتين الحالتين أصناف كثيرة في درجات الثواب ودرجات العقاب . وجماع أمرها أن الحسنة لها أثرها يومئذ عاجلا أو بالأخارة وأن السيئة لها أثرها السيء بمقدارها ومقدار ما معها من أمثالها وما يكافئها من الحسنات أضدادها ( فلا تظلم نفس شيئا )