فإن الناس كانوا يحسبون أن الشمس تدور حول الأرض فينشأ من دورانها نظام الليل والنهار ويحسبون الأرض ساكنة . واهتدى بعض علماء اليونان أن الأرض هي التي تدور حول الشمس في كل يوم وليلة دورة تتكون منها ظلمة نصف الكرة الأرضية تقريبا وضياء النصف الآخر وذلك ما يعبر عنه بالليل والنهار ولكنها كانت نظرية مرموقة بالنقد وإنما كان الدال عليها قاعدة أن الجرم الأصغر أولى بالتحرك حول الجرم الأكبر المرتبط بسيره وهي علة اقناعية لأن الحركة مختلفة المدارات فلا مانع من أن يكون المتحرك الأصغر حول الأكبر في رأي العين وضبط الحساب وما تحققت هذه النظرية إلا في القرآن السابع عشر بواسطة الرياضي ( غاليلي ) الإيطالي . والقرآن يدمج في ضمن دلائله الجمة وعقب دليل تكوين النور والظلمة دليلا رمز إليه رمزا فلم يتناوله المفسرون أو تسمع لهم ركزا .
وإنما ناط دلالة تحرك الأرض بتحرك الجبال منها لأن الجبال هي الأجزاء الناتئة من الكرة الأرضية فظهور تحرك ظلالها متناقصة قبل الزوال إلى منتهى نقصها ثم آخذة في الزيادة بعد الزوال . ومشاهدة تحرك تلك الظلال تحركا يحاكي دبيب النمل أشد وضوحا للراصد وكذلك ظهور تحرك قممها أمام قرص الشمس في الصباح والمساء أظهر مع كون الشمس ثابتة في مقرها بحسب أرصاد البروج والأنوار .
ولهذا الاعتبار غير أسلوب الاستدلال الذي في قوله تعالى ( ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه ) فجعل هنا بطريق الخطاب ( وترى الجبال ) . والخطاب للنبي A تعليما له لمعنى يدرك هو كنهه ولذلك خص الخطاب به ولم يعمم كما عمم قوله ( ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه ) في هذا الخطاب وادخار لعلماء أمته الذين يأتون في وقت ظهور هذه الحقيقة الدقيقة . فالنبي A أطلعه الله على هذا السر العجيب في نظام الأرض كما أطلع إبراهيم عليه السلام على كيفية إحياء الموتى اختص الله رسوله A بعلم ذلك في وقته وائتمنه على علمه بهذا السر العجيب في قرآنه ولم يأمره بتبليغه إذ لا يتعلق بعلمه للناس مصلحة حينئذ حتى إذا كشف العلم عنه من نقابه وجد أهل القرآن ذلك حقا في كتابه فاستلوا سيف الحجة به وكان في قرابه .
وهذا التأويل للآية هو الذي يساعد قوله ( وترى الجبال ) المقتضي أن الرائي يراها في هيئة الساكنة وقوله ( تحسبها جامدة ) إذ هذا التأويل بمعنى الجامدة هو الذي يناسب حالة الجبال إذ لا تكون الجبال ذائبة .
وقوله ( وهي تمر ) الذي هو بمعنى السير ( مر السحاب ) أي مرا واضحا لكنه لا يبين من أول وهلة . وقوله بعد ذلك كله ( صنع الله الذي أتقن كل شيء ) المقتضي أنه اعتبار بحالة نظامها المألوف لا بحالة انخرام النظام لأن خرم النظام لا يناسب وصفه بالصنع المتقن ولكنه يوصف بالأمر العظيم أو نحو ذلك من أحوال الآخرة التي لا تدخل تحت التصور .
و ( مر السحاب ) مصدر مبين لنوع مرور الجبال أي مرورا تنتقل به من جهة إلى جهة مع أن الرائي يخالها ثابتة في مكانها كما يخال ناظر السحاب الذي يعم الأفق أنه مستقر وهو ينتقل من صوب ويمطر من مكان إلى آخر فلا يشعر به الناظر إلا وقد غاب عنه . وبهذا تعلم أن المر غير السير الذي في قوله تعالى ( ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة ) فإن ذلك في وقت اختلال نظام العالم الأرضي .
وانتصب قوله ( صنع الله ) على المصدرية مؤكدا لمضمون جملة ( تمر مر السحاب ) بتقدير : صنع الله ذلك صنعا . وهذا تمجيد لهذا النظام العجيب إذ تتحرك الأجسام العظيمة مسافات شاسعة والناس يحسبونها قارة ثابتة وهي تتحرك بهم ولا يشعرون