( وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون [ 88 ] ) A E الذي قاله جمهور المفسرين : إن الآية حكت حادثا يحصل يوم ينفخ في الصور فجعلوا قوله ( وترى الجبال تحسبها جامدة ) عطفا على ( ينفخ في الصور ) أي ويوم ترى الجبال تحسبها جامدة الخ . . وجعلوا الرؤية بصرية ومر السحاب تشبيها لتنقلها بمر السحاب في السرعة وجعلوا اختيار التشبيه بمرور السحاب مقصودا منه إدماج تشبيه حال الجبال حين ذلك المرور بحال السحاب في تخلخل الأجزاء وانتفاشها فيكون من معنى قوله ( وتكون الجبال كالعهن المنفوش ) وجعلوا الخطاب في قوله ( ترى ) لغير معين ليعم كل من يرى وجعلوا معنى هذه الآية في معنى قوله تعالى ( ويوم يسير الجبال ) . فلما أشكل أن هذه الأحوال تكون قبل يوم الحشر لأن الآيات التي ورد فبها ذكر دك الجبال ونسفها تشير إلى أن ذلك في انتهاء الدنيا عند القارعة وهي النفخة الأولى أو قبيلها فأجابوا بأنها تندك حينئذ ثم تسير يوم الحشر لقوله ( فقل ينسفها ربي نسفا ) إلى أن قال ( يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له ) لأن الداعي هو إسرافيل ( وفيه أن للاتباع أحوالا كثيرة وللداعي معاني أيضا ) .
وقال بعض المفسرين : هذا مما يكون عند النفخة الأولى وكذلك جميع الآيات التي ذكر فيها نسف الجبال ودكها وبسها . وكأنهم لم يجعلوا عطف ( وترى الجبال ) على ( ينفخ في الصور ) حتى يتسلط عليه عمل لفظ ( يوم ) بل يجعلوه من عطف الجملة على الجملة والواو لا تقتضي ترتيب المعطوف بها مع المعطوف عليه فهو عطف عبرة على عبرة وإن كانت المذكورة أولى حاصلة ثانيا .
وجعل كلا الفريقين قوله ( صنع الله ) الخ مرادا به تهويل قدرة الله تعالى وأن النفخ في الصور وتسيير الجبال من عجيب قدرته فكأنهم تأولوا الصنع بمعنى مطلق الفعل من غير التزام ما في مادة الصنع من معنى التركيب والإيجاد فإن الإتقان إجادة والهدم لا يحتاج إلى إتقان .
وقال الماوردي : قيل هذا مثل ضربه الله أي وليس بخبر . وفيما ضرب فيه المثل ثلاثة أقوال : أحدها : أنه مثل للدنيا يظن الناظر إليها أنها ثابتة كالجبال وهي آخذة بحظها من الزوال كالسحاب قاله سهل بن عبد الله التستري .
الثاني : أنه مثل للإيمان تحسبه ثابتا في القلب وعمله صاعد إلى السماء .
الثالث : أنه مثل للنفس عند خروج الروح والروح تسير إلى العرش . وكأنهم أرادوا بالتمثيل التشبيه والاستعارة .
ولا يخفى على الناقد البصير بعد هذه التأويلات الثلاثة لأنه إن كان ( الجبال ) مشبها بها فهذه الحالة غير ثابتة لها حتى تكون هي وجه الشبه وإن كان لفظ ( الجبال ) مستعارا لشيء وكان مر السحاب كذلك كان المستعار له غير مصرح به ولا ضمنيا .
وليس في كلام المفسرين شفاء لبيان اختصاص هذه الآية بأن الرائي يحسب الجبال جامدة ولا بيان وجه تشبيه سيرها بسير السحاب ولا توجيه التذييل بقوله تعالى ( صنع الله الذي أتقن كل شيء ) فلذلك كان لهذه الآية وضع دقيق ومعنى بالتأمل خليق فوضعها أنها وقعت موقع الجملة المعترضة المعترضة بين المجمل وبيانه من قوله ( ففزع من في السماوات ومن في الأرض ) إلى قوله ( من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ) بأن يكون من تخلل دليل على دقيق صنع الله تعالى في أثناء الإنذار والوعيد إدماجا وجمعا بين استدعاء للنظر وبين الزواجر والنذر كما صنع في جملة ( ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه ) الآية ؛ أو هي معطوفة على جملة ( ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه ) الآية وجملة ( ويوم ينفخ في الصور ) معترضة بينهما لمناسبة ما في الجملة المعطوف عليها من الإيماء إلى تمثيل الحياة بعد الموت ولكن هذا استدعاء لأهل العلم والحكمة لتتوجه أنظارهم إلى ما في الكون من دقائق الحكمة وبديع الصنعة . وهذا من العلم الذي أدع في القرآن ليكون معجزة من الجانب العلمي يدركها أهل العلم كما كان معجزة للبلغاء من جانبه النظمي كما قدمناه في الجهة الثانية من المقدمة العاشرة .
A E