وهذا الحديث يقتضي أن سورة الشعراء نزلت قبل سورة أبي لهب مع أن سورة أبي لهب عدت السادسة في عداد السور وسورة الشعراء عدت السابعة والأربعين . فالظاهر أن قوله ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) نزل قبل سورة الشعراء مفردا فقد جاء في بعض الروايات عن ابن عباس في صحيح مسلم : لما نزلت ( وأنذر عشيرتك الأقربين ورهطك منهم المخلصين ) وأن ذلك نسخ . فلعل الآية نزلت أول مرة ثم نسخت تلاوتها ثم أعيد نزول بعضها في جملة سورة الشعراء .
والعشيرة : الأدنون من القبيلة فوصف ( الأقربين ) تأكيد لمعنى العشيرة واجتلاب لقلوبهم إلى إجابة ما دعاهم إليه وتعريض بأهل الإدانة منهم .
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند .
وإلى هذا يشير النبي A في آخر الدعوة المتقدمة ( غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها ) أي ذلك منتهى ما أملك لكم حين لا أملك لكم من الله شيئا فيحق عليكم أن تبلوا لي رحمي مما تملكون فإنكم تملكون أن تستجيبوا لي .
وتقدم ذكر العشيرة في قوله تعالى ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وعشيرتكم ) في سورة براءة .
( واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين [ 215 ] ) .
معترض بين الجملتين ابتدارا لكرامة المؤمنين قبل الأمر بالتبرؤ من الذين لا يؤمنون وبعد الأمر بالإنذار الذي لا يخلو من وقع أليم في النفوس .
وخفض الجناح : مثل المعاملة باللين والتواضع . وقد تقدم عند قوله تعالى ( واخفض جناحك للمؤمنين ) في سورة الحجر وقوله ( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ) في سورة الإسراء . والجناح للطائر بمنزلة اليدين للدواب وبالجناحين يكون الطيران .
و ( من المؤمنين ) بيان ل ( لمن اتبعك ) فإن المراد المتابعة في الدين وهي الأيمان . والغرض من هذا البيان التنويه بشأن الإيمان كأنه قيل : واخفض جناحك لهم لأجل إيمانهم كقوله تعالى ( ولا طائر يطير بجناحيه ) وجبر لخاطر المؤمنين من قرابته . ولذلك لما نادى في دعائه صفية قال " عمة رسول الله " ولما نادى فاطمة قال " بنت رسول الله " تأنيسا لهما فهذا من خفض الجناح ولم يقل مثل ذلك للعباس لأنه كان يومئذ من مشركا .
( فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون [ 216 ] ) .
A E تفريع على جملة ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) أي عصوا أمرك المستفاد من الأمر بالإنذار أي فإن عصاك عشيرتك فما عليك إلا أن تتبرأ من عملهم وهذا هو مثار قول النبي A لهم في دعوته ( غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها ) فالتبرؤ إنما هو من كفرهم وذلك لا يمنع من صلتهم لأجل الرحم وإعادة النصح لهم كما قال ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) . وإنما أمر بأن يقول لهم ذلك لإظهار أنهم أهل للتبرؤ من أعمالهم فلا يقتصر على إضمار ذلك في نفسه .
( فتوكل على العزيز الرحيم [ 217 ] الذي يريك حين تقوم [ 218 ] وتقلبك في الساجدين [ 219 ] إنه هو السميع العليم [ 220 ] ) .
وعطف الأمر بالتوكل بفاء التفريع في قراءة نافع وابن عامر وأبي جعفر فيكون تفريعا على ( فقل إني بريء مما تعملون ) تنبيها على المبادرة بالعوذ من شر أولئك الأعداء وتنصيصا على اتصال التوكل بقوله ( إني بريء ) .
وقرأ الجمهور ( وتوكل ) بالواو وهو عطف على جواب الشرط أي قل إني بريء وتوكل وعطفه على الجواب يقتضي تسببه على الشرط كتسبب الجواب وهو يستلزم البدار به فمآل القراءتين واحد وإن اختلف طريق انتزاعه .
والمعنى : فإن عصاك أهل عشيرتك فتبرأ منهم . ولما كان التبرؤ يؤذن بحدوث مجافاة وعداوة بينه وبينهم ثبت الله جأش رسوله بأن لا يعبأ بهم وأن يتوكل على ربه فهو كافيه كما قال ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) . وعلق التوكل بالاسمين ( العزيز الرحيم ) وما تبعهما من الوصف الموصول وما ذيل به من الإيماء إلى أنه يلاحظ قوله ويعلم نيته إشارة إلى أن التوكل على الله يأتي بما أومأت إليه هذه الصفات ومستتبعاتها بوصف ( العزيز الرحيم ) للإشارة إلى أنه بعزته قادر على تغلبه على عدوه الذي هو أقوى منه وأنه برحمته يعصمه منهم . وقد لوحظ هذان الاسمان غير مرة في هذه السورة لهذا الاعتبار كما تقدم