وبالاستثناء من أحوال محذوفة . والتقدير : وما أهلكنا من قرية في حال من الأحوال إلا في حال لها منذرون . وعريت جملة الحال عن الواو استغناء عن الواو بحرف الاستثناء ولو ذكرت الواو لجاز كقوله في سورة الحجر ( إلا ولها كتاب معلوم ) . وعبر عن الرسل بصفة الإنذار لأنه المناسب للتهديد بالإهلاك .
( ذكرى وما كنا ظالمين [ 209 ] ) .
أي هذه ذكرى فذكرى في موضع رفع على الخبرية مبتدأ محذوف دلت عليه قرينة السياق كقوله تعالى في سورة الأحقاف ( بلاغ ) أي هذا بلاغ وفي سورة إبراهيم ( هذا بلاغ للناس ) وفي سورة ص ( هذا ذكر ) . والمعنى : هذه ذكرى لكم يا معشر قريش . وهذا المعنى هو أحسن الوجوه في موقع قوله ( ذكرى ) وهو قول ابي إسحاق الزجاج والفراء وإن اختلفا في تقدير المحذوف قال ابن الأنباري قال بعض المفسرين : ليس في الشعراء وقف تام إلا قوله ( إلا لها منذرون ) .
وقد تردد الزمخشري في موقع قوله ( ذكرى ) بوجوه جعلها جميعا على اعتبار قوله ( ذكرى ) تكملة للكلام السابق وهي غير خلية عن تكلف . والذكرى : اسم مصدر ذكر .
وجملة ( وما كنا ظالمين ) يجوز أن تكون معطوفة على ( ذكرى ) لأنه كالمصدر يقتضي مسندا إليه وعلى الوجهين فمفاد ( وما كنا ظالمين ) الأعذار لكفار قريش والإنذار بأنهم سيحل بهم هلاك .
وحذف مفعول ( ظالمين ) لقصد تعميمه كقوله تعالى ( ولا يظلم ربك أحدا ) .
( وما تنزلت به الشياطين [ 210 ] وما ينبغي لهم وما يستطيعون [ 211 ] إنهم عن السمع لمعزلون [ 212 ] ) .
عطف على جملة ( وإنه لتنزيل رب العالمين ) وما بينهما اعتراض استدعاه تناسب المعاني وأخذ بعضها بحجر بعض تفننا في الغرض . وهذا رد على قولهم في النبي A هو كاهن قال تعالى ( فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون ) وزعمهم أن الذي يأتيه شيطان ؛ فقد قالت العوراء بنت حرب امرأة أبي لهب لما تخلف رسول الله عن قيام الليل ليلتين لمرض : أرجو أن يكون شيطانك قد تركك . ولذلك كان من جملة ما راجعهم به الوليد بن المغيرة حين شاوره المشركون فيما يصفون النبي A وقالوا نقول : كلامه كلام كاهن فقال : والله ما هو بزمزمته . وكلام الكهان في مزاعمهم من إلقاء الجن إليهم وإنما هو خواطر نفوسهم ينسبونها إلى شياطينهم المزعومة . نفي عن القرآن أن يكون من ذلك القبيل أي الكهان لا يجيش في نفوسهم كلام مثل القرآن فما كان لشياطين الكهان أن يفيضوا على نفوس أوليائهم مثل هذا القرآن . فالكهانة من كذب الكهان وتمويههم وأخبار الكهان كلها أقاصيص وسعها الناقلون .
A E فالتعريف في ( السمع ) للعهد وهو ما يعتقده العرب من أن الشياطين تسترق السمع أي تتحيل على الاتصال بعلم ما يجري في الملأ الأعلى . ذلك أن الكهان كانوا يزعمون أن الجن تأتيهم بأخبار ما يقدر في الملأ الأعلى مما سيظهر حدوثه في العالم الأرضي فلذلك نفي هنا تنزل الشياطين بكلام القرآن بناء على أن المشركين يزعمون أن الشياطين تنزل من السماء بأخبار ما سيكون . وبيان ذلك تقدم في سورة الحجر ويأتي في سورة الصافات .
ومعنى ( وما ينبغي لهم ) ما يستقيم وما يصح أي لا يستقيم لهم تلقي كلام الله تعالى الذي الشأن أن يتلقاه الروح الأمين وما يستطيعون تلقيه لأن النفوس الشيطانية ظلمانية خبيثة بالذات فلا تقبل الانتقاش بصور ما يجري في عالم الغيب فإن قبول فيضان الحق مشروط بالمناسبة بين المبدأ والقابل .
فضمير ( ينبغي ) عائد إلى ما عاد ضمير ( به ) أي ما ينبغي القرآن لهم أي ما ينبغي أن ينزلوا به كما زعم المشركون . ومفعول ( يستطيعون ) محذوف أي ما يستطيعونه . وأعيدت الضمائر بصيغة العقلاء بعد أن أضمر اهم بضمير غير العقلاء في قوله ( وما تنزلت ) اعتبارا بملابسة ذلك الكهان . وقد تقدم في سورة الحجر أن صنفا من الشياطين يتهيأ للتلقي بما يسمى استراق السمع وأنه يصرف عنه بالشهب . واستؤنف ب ( إنهم عن السمع لمعزولون ) فكان ذلك كالفذلكة لما قبله وهو بعمومه يتنزل منزلة التذييل .
والمعزول : المبعد عن أمر فهو في عزلة عنه . وفي هذا إبطال للكهانة من أصلها وهي وإن كانت فيها شيء من الاتصال بالقوى الروحية في سالف الزمان فقد زال ذلك منذ ظهور الإسلام