ولا وجه عندي في تأويلها أن تكون جملة ( فيأتيهم بغتة ) بدل اشتمال من جملة ( يروا العذاب الأليم ) وأدخلت الفاء فيها لبيان صورة الاشتمال أي أن رؤية العذاب مشتملة على حصوله بغتة أي يرونه دفعة دون سبق أشراط له .
أما الفاء في قوله ( فيقولوا ) فهي لإفادة التعقيب في الوجود وهو صادق بأسرع تعذيب فتكون خطرة في نفوسهم قبل أن يهلكوا في الدنيا أو يقولون ذلك ويرددون يوم القيامة حين يرون العذاب وحين يلقون فيه .
و ( هل ) مستعملة في استفهام مراد به التمني مجازا وجيء بعدها بالجملة الاسمية الدالة على الثبات أي تمنوا إنظارا طويلا يتمكنون فيه من الإيمان والعمل الصالح .
( أفبعذابنا يستعجلون [ 204 ] أفرأيت إن متعنهم سنين [ 205 ] ثم جاءهم ما كانوا يوعدون [ 206 ] ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون [ 207 ] ) .
نشأ عنه قوله ( فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون ) تقدير جواب عن تكرر سؤالهم : ( متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ) حيث جعلوا تأخر حصول العذاب دليلا على انتفاء وقوعه فأعقب ذلك بقوله ( أفبعذابنا يستعجلون ) . فالفاء في قوله ( أفبعذابنا يستعجلون ) تفيد تعقيب الاستفهام عقب تكرر قولهم ( متى هذا الوعد ) ونحوه . والاستفهام مستعمل في التعجيب من غرورهم . والمعنى : أيستعجلون بعذابنا فما تأخيره إلا تمتيع لهم . وكانوا يستهزئون فيقولون : ( متى هذا الوعد ) ويستعجلون بالعذاب ( وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ) . قال مقاتل : قال المشركون للنبي A : يا محمد إلى متى تعدنا بالعذاب ولا تأتي به فنزلت ( أفبعذابنا يستعجلون ) .
وتقديم ( بعذابنا ) للرعاية على الفاصلة وللاهتمام به في مقام الإنذار أي ليس شأن مثله أن يستعجل لفظاعته .
ولما كان استعجالهم بالعذاب مقتضيا أنهم في مهلة منه ومتعة بالسلامة وأن ذلك يغرهم بأنهم في منجاة من الوعيد الذي جاءهم على لسان الرسول A جابههم بجملة ( أفرأيت إن متعناهم سنين ) .
والاستفهام في ( أفرأيت إن متعناهم ) للتقرير . و ( ما ) في قوله ( ما أغنى عنهم ) استفهامية وهو استفهام مستعمل في الإنكار أي لم يغن عنهم شيئا . والرؤية في ( أفرأيت ) قلبية أي أفعلمت . والخطاب لغير معين يعم كل مخاطب حتى المجرمين .
وجملة ( إن متعناهم سنين ) معترضة وجواب الشرط محذوف دل عليه ما سد مسد مفعولي ( رأيت ) . و ( ثم جاءهم ) معطوف على جملة الشرط المعترضة و ( ثم ) فيه للترتيب والمهلة أي جاءهم بعد سنين . وفيه رمز إلى أن العذاب جائيهم وحال بهم لا محالة . و ( ما كانوا يوعدون ) موصول وصلته والعائد محذوف تقديره : يوعدونه .
A E وجملة ( ما أغنى عنهم ) سادة مسد مفعولي ( رأيت ) لأنه معلق عن العمل بسبب الاستفهام بعده . و ( ما كانوا يمتعون ) موصول وصلته . والعائد محذوف تقديره : يمتعونه .
والمعنى : أعلمت أن تمتيعهم بالسلامة وتأخير العذاب إن فرض امتداده سنين عديدة غير مغن عنهم شيئا إن جاءهم العذاب بعد ذلك . وهذا كقوله تعالى ( ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه إلا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ) وذلك أن الأمور بالخواتيم . في تفسير القرطبي : روى ابن شهاب أن عمر بن عبد العزيز كان إذا أصبح أمسك بلحيته ثم قرأ ( أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون ) ثم يبكي ويقول : .
نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم .
فلا أنت في الإيقاظ يقظان حازم ... ولا أنت في النوام ناج فسالم .
تسر بما يفنى وتفرح بالمنى ... كما سر باللذات في النوم حالم .
وتسعى إلى ما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم ولم أقف على صاحب هذه الأبيات قال ابن عطية : ولأبي جعفر المنصور قصة في هذه الآية . ولعل ما روي عن عمر بن عبد العزيز روي مثيله عن المنصور .
( وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون [ 208 ] ) .
تذكير لقريش بان القرى التي أهلكها الله والتي تقدم ذكرها في هذه السورة قد كان لها رسل ينذرونها عذاب الله ليقيسوا حالتهم على أحوال الأمم التي قبلهم