فأما الاعتبار الأول فالضمير مؤول بالعود إلى اسم القرآن كقوله تعالى ( الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ) أي يجدون اسمه ووصفه الذي يعنه . فالمعنى أن ذكر القرآن وارد في كتب الأولين أي جاءت بشارات بمحمد A وأنه رسول يجيء بكتاب . ففي سفر التثنية من كتب موسى عليه السلام في الإصحاح الثامن عشر قول موسى " قال لي الرب : أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به " إذ لا شك أن إخوة بني إسرائيل هم العرب كما ورد في سفر التكوين في الإصحاح السادس عشر عند ذكر الحمل بإسماعيل " وأمام جميع إخوته يسكن " أي لا يسكن معهم ولكن قبالتهم . ولم يأت نبي بوحي مثل موسى بشرع كشرع موسى غير محمد A وكلام الله المجعول في فمه هو القرآن الموحى به إليه وهو يتلوه .
وفي إنجيل متى الإصحاح الرابع عشر قال عيسى عليه السلام " ويقوم أنبياء كذبة كثيرون ويضلون كثيرا... ولكن الذي يصبر إلى المنتهى أي يدوم إلى آخر الدهر أي دينه إذ لا خلود للأشخاص فهذا يخلص ويكرز " أي يدعو " ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة " أي الأرض المأهولة " شهادة لجميع الأمم " رسالة عامة " ثم يأتي المنتهى " أي نهاية العالم " " .
فالبشارة هي الوحي وهو القرآن وهو الكتاب الذي دعا جميع الأمم قال تعالى ( كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ) وقال ( ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ) .
وفي إنجيل يوحنا قول المسيح الإصحاح الرابع عشر " وأنا أطلب من الأب فيعطيكم معزيا " أي رسولا " آخر ليمكث معكم إلى الأبد " هذا هو دوام الشريعة " روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله " إشارة إلى تكذيب المكذبين " لأنه لا يراه ولا يعرفه " . ثم قال " وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي " أي وصف الرسالة " فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم " وهذا التعليم لكل شيء هو القرآن ما فرطنا في الكتاب من شيء " " .
A E وأما الاعتبار الثاني فالضمير مؤول بمعنى مسماه كقولهم : عندي درهم ونصفه أي نصف مسمى درهم فكما يطلق اسم الشيء على معناه نحو ( إليه يصعد الكلم الطيب ) وقوله ( واذكر في الكتاب إبراهيم ) أي أحواله كذلك يطلق ضمير الاسم على معناه فالمعنى : أن ما جاء به القرآن موجود في كتب الأولين . وهذا كقول الإنجيل آنفا ( ويذكركم بكل ما قلته لكم ) ولا تجد شيئا من كلام المسيح عليه السلام المسطور في الأناجيل غير المحرف عنه إلا وهو مذكور في القرآن فيكون الضمير باعتبار بعضه كقوله ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ) الآية .
والمقصود : أن ذلك آية على صدق أنه من عند الله . وهذا معنى كون القرآن مصدقا لما بين يديه .
وقوله ( أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ) تنويه ثالث بالقرآن وحجة على التنويه الثاني به الذي هو شهادة كتب الأنبياء له بالصدق بأن علماء بني إسرائيل يعلمون ما في القرآن مما يختص بعلمهم فباعتبار كون هذه الجملة تنويها آخر بالقرآن عطفت على الجملة التي قبلها ولولا ذلك لكان مقتضى كونها حجة على صدق القرآن أن لا تعطف .
وفعل ( يعلمه ) شامل للعلم بصفة القرآن أي تحقق صدق الصفات الموصوف بها من جاء بعده وشامل للعلم بما يتضمنه ما في كتبهم .
وضمير ( أن يعلمه ) عائد إلى القرآن على تقدير : أن يعلم ذكره . ويجوز أن يعود على الحكم المذكور في قوله ( وإنه لفي زبر الأولين ) .
( ولو نزلناه على بعض الأعجمين [ 198 ] فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين [ 199 ] ) .
كان من جملة مطاعن المشركين في القرآن أنه ليس من عند الله ويقولون : تقوله محمد من عند نفسه وقالوا : ( أساطير الأولين اكتتبها ) فدمغهم الله بأن تحداهم بالإتيان بمثله فعجزوا