لما أفاد الاستفهام في قوله ( أتبنون بكل ريع آية ) معنى الإنكار على ما قارن بناءهم الآيات واتخاذهم المصانع وعلى شدتهم على الناس عند الغضب فرع عليه أمرهم باتقاء الله وحصل مع ذلك التفريع تكرير جملة الأمر بالتقوى والطاعة .
وحذف ياء المتكلم من ( أطيعون ) كحذفها في نظيرها المتقدم . وأعيد فعل ( واتقوا ) وهو مستغنى عنه لو اقتصر على الموصول وصفا لاسم الجلالة لأن ظاهر النظم أن يقال : فاتقوا الله الذي أمدكم بما تعلمون فعدل عن مقتضى الظاهر وبني الكلام على عطف الأمر بالتقوى على الأمر الذي قبله تأكيدا له واهتماما بالأمر بالتقوى مع أن ما عرض من الفصل بين الصفة والموصوف بجملة ( وأطيعون ) قضى بأن يعاد اتصال النظم بإعادة فعل ( اتقوا ) .
A E وإنما أتي بفعل ( اتقوا ) معطوفا ولم يؤت به مفصولا لما في الجملة الثانية من الزيادة على ما في الجملة الأولى من التذكير بإنعام الله عليهم فعلق بفعل التقوى في الجملة الأولى اسم الذات المقدسة للإشارة إلى استحقاقه التقوى لذاته ثم علق بفعل التقوى في الجملة الثانية اسم الموصول بصلته الدالة على إنعامه للإشارة إلى استحقاقه التقوى لاستحقاقه الشكر على ما أنعم به .
وقد جاء في ذكر النعمة بالإجمال الذي يهيئ السامعين لتلقي ما يرد بعده فقال ( الذي أمدكم بما تعلمون ) ثم فصل بقوله ( أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون ) وأعيد فعل ( أمدكم ) في جملة التفصيل لزيادة الاهتمام بذلك الإمداد فهو للتوكيد اللفظي . وهذه الجملة بمنزلة بدل البعض من جملة ( أمدكم بما تعلمون ) فإن فعل ( أمدكم ) الثاني وإن كان مساويا ل ( أمدكم ) الأول فإنما صار بدلا منه باعتبار ما يتعلق به من قوله ( بأنعام وبنين ) الخ الذي هو بعض مما تعلمون . وكلا الاعتبارين التوكيد والبدل يقتضي الفصل فلأجله لم تعطف الجملة .
وابتدأ في تعداد النعم بذكر الأنعام لأنها اجل نعمة على أهل ذلك البلد لأن منها أقواتهم ولباسهم وعليها أسفارهم وكانوا أهل نجعة فهي سبب بقائهم وعطف عليها البنين لأنهم نعمة عظيمة بأنها أنسهم وعونهم على أسباب الحياة وبقاء ذكرهم بعدهم وكثرة أمتهم وعطف الجنات والعيون لأنها بها رفاهية حالهم واتساع رزقهم وعيش أنعامهم .
وجملة ( إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ) تعليل لإنكار عدم تقواهم وللمر بالتقوى أي أخاف عليكم عذابا إن لم تتقوا فإن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده .
والعذاب يجوز ان يريد به عذابا في الدنيا توعدهم الله به على لسانه ويجوز أن يريد به عذاب يوم القيامة .
ووصف ( يوم ) ب ( عظيم ) على طريقة المجاز العقلي أي عظيم ما يحصل فيه من الأهوال .
( قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين [ 136 ] إن هذا إلا خلق الأولين [ 137 ] وما نحن بمعذبين [ 138 ] فكذبوه فأهلكنهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين [ 139 ] وإن ربك لهو العزيز الرحيم [ 140 ] ) .
أجابوا بتأييسه من أن يقبلوا إرشاده فجعلوا وعظه وعدمه سواء أي هما سواء في انتفاء ما قصده من وعظه وهو امتثالهم .
والهمزة للتسوية . وتقدم بيانها عند قوله ( سواء عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) في سورة البقرة .
والوعظ : التخويف والتحذير من شيء فيه ضر والاسم الموعظة . وتقدم في قواه ( وهدى وموعظة للمتقين ) في سورة العقود .
ومعنى ( أم لم تكن من الواعظين ) أم لم تكن في عداد الموصوفين بالواعظين أي لم تكن من أهل هذا الوصف في شيء وهو أشد في نفي الصفة عنه من أن لو قيل : أم لم تعظ كما تقدم في قوله تعالى ( قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ) في سورة البقرة وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى ( وما أنا من المهتدين ) في سورة الأنعام وتقدم آنفا قوله في قصة نوح ( لتكونن من المرجومين ) .
وجملة ( إن هذا إلا خلق الأولين ) تعليل لمضمون جملة ( سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين ) أي كان سواء علينا فلا نتبع وعظك لأن هذا خلق الأولين . والإشارة ب ( هذا ) إلى شيء معلوم للفريقين حاصل في مقام دعوة هود إياهم وسيأتي بيانه