وقد اختلفت أقوال المفسرين في تعيين البناء والآيات والمصانع كما سيأتي . وفي بعض ما قالوه ما هو متحمض للهو والعبث والفساد وفي بعضه ما الأصل فيه الإباحة وفي بعضه ما هو صلاح ونفع كما سيأتي .
وموقع جملة ( أتبنون ) في موضع بدل الاشتمال لجملة ( ألا تتقون ) فإن مضمونها مما يشتمل عليه عدم التقوى الذي تسلط عليه الإنكار وهو في معنى النفي .
والريع بكسر الراء : الشرف أي المكان المرتفع كذا عن ابن عباس والطريق والفج بي الجبلين كذا قال مجاهد وقتادة .
والآية : العلامة الدالة على الطريق وتطلق الآية على المصنوع المعجب لأنه يكون علامة على إتقان صانعه أو عظمة صاحبه .
A E و ( كل ) مستعمل في الكثرة أي في الأرياع المشرفة على الطرق المسلوكة والعبث : العمل الذي لا فائدة نفع فيه .
والمصانع : جمع مصنع وأصله مفعل مشتق من صنع فهو مصدر ميمي وصف به للمبالغة فقيل : هو الجابية المحفورة في الأرض . وروي عن قتادة : مبنية بالجير يخزن بها الماء ويسمى صهريجا وماجلا وقيل : قصور وهو عن مجاهد .
وكانت بلاد عاد ما بين عمان وحضرموت شرقا وغربا ومتغلغلة في الشمال إلى الرمال وهي الأحقاق .
وجملة ( لعلكم تخلدون ) مستأنفة . و ( لعل ) للترجي وهو طلب المتكلم شيئا مستقرب الحصول والكلام تهكم بهم أي أرجو لكل الخلود بسبب تلك المصانع . وقيل : جعلت عاد بنايات على المرتفعات على الطرق يعبثون فيها ويسخرون بالمارة . وقد يفسر هذا القول بأن الأمة في حال انحطاطها حولت ما كان موضوعا للمصالح إلى مفاسد فعمدوا إلى ما كان مبنيا لقصد تيسير السير والأمن على السابلة من الضلال في الفيافي المهلكة فجعلوه مكامن لهو وسخرية كما اتخذت بعض أديرة النصارى في بلاد العرب مجالس خمر وكما أدركنا الصهاريج التي في قرطاجنة كانت خزانا لمياه زغوان المنسابة إليها على الحنايا فرأيناها مكامن للصوص ومخازن للدواب إلى أول هذا القرن سنة 1303 ه .
وقيل : إن المصانع قصور عظيمة اتخذوها فيكون الإنكار عليهم متوجها إلى الإسراف في الإنفاق على أبنية راسخة مكينة كأنها تمنعهم من الموت فيكون الكلام مسوقا مساق الموعظة من التوغل في الترف والتعاظم . هذا ما استخلصناه من كلمات انتثرت في أقوال عن المفسرين وهي تدل على حيرة من خلال كلامهم في توجيه إنكار هود على قومه عملين كانا معدودين في النافع من أعمال الأمم وأحسب أن قد أزلنا تلك الحيرة .
وقوله ( وإذا بطشتم بطشتم جبارين ) أعقب به موعظتهم على اللهو واللعب والحرص على الدنيا بأن وعظهم على الشدة على الخلق في العقوبة وهذا من عدم التوازن في العقول فهم يبنون العلامات لإرشاد السابلة ويصطنعون المصانع لإغاثة العطاش فكيف يلاقي هذا التفكير بالإفراط في الشدة على الناس في البطش بهم أي عقوبتهم .
والبطش : الضرب عند الغضب بسوط أو سيف وتقدم في قوله ( أم لهم أيد يبطشون بها ) في آخر الأعراف .
و ( جبارين ) حال من ضمير ( بطشتم ) وهو جمع جبار والجبار : الشديد في غير الحق . فالمعنى : إذا بطشتم كان بطشكم في حالة التجبر أي الإفراط في الأذى وهو ظلم قال تعالى ( إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين ) . وشأن العقاب أن يكون له حد مناسب للذنب المعاقب عليه بلا إفراط ولا تفريط في البطش استخفاف بحقوق الخلق .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال رسول الله A : ( صنفان من أهل النار لم أرهما : قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات . . ) الحديث . ووقع فعل ( بطشتم ) الثاني جوابا ل ( إذا ) وهو مرادف لفعل شرطها لحصول الاختلاف بين فعل الشرط وفعل الجواب بالعموم والخصوص كما تقدم في قوله تعالى ( وإذا مروا باللغو مروا كراما ) في سورة الفرقان وإنما يقصد مثل هذا النظم لإفادة الاهتمام بالفعل إذ يحصل من تكريره تأكيد مدلوله .
( فاتقوا الله وأطيعون [ 131 ] واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون [ 132 ] أمدكم بأنعم وبنين [ 133 ] وجنت وعيون [ 134 ] إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم [ 135 ] )