وكانت عاد قد بلغوا مبلغا عظيما من البأس وعظم السلطان والتغلب على البلاد مما أثار قولهم ( من أشد منا قوة ) فقد كانت قبائل العرب تصف الشيء العظيم في نوعه بأنه ( عادي ) وكانوا أهل رأي سديد ورجاحة أحلام قال وداك ابن ثميل المازني : .
وأحلام عاد لا يخاف جليسهم ... ولو نطق العوار غرب لسان وقال النابغة يمدح غسان : .
أحلام عاد وأجساد مطهرة ... من المعقة والآفات والأثم A E فطال عليهم الأمد وتفننوا في إرضاء الهوى وأقبلوا على الملذات واشتد الغرور بأنفسهم فأضاعوا الجانب الأهم للإنسان وهو جانب الدين وزكاء النفس وأهملوا أن يقصدوا من أعمالهم المقاصد النافعة ونية إرضاء الله على أعمالهم لحب الرئاسة والسمعة فعبدوا الأصنام واستخفوا بجانب الله تعالى واستحمقوا الناصحين وأرسل الله إليهم هودا ففاتحهم بالتوبيخ على ما فتنوا بالإعجاب به وبذمه إذ ألهاهم التنافس فيه عن معرفة الله فنبذوا اتباع الشرائع وكذبوا الرسول . فمن سابق أعمال عاد أنهم كانوا بنوا في طرق أسفارهم أعلاما ومنارات تدل على الطريق كيلا يضل السائرون في تلك الرمال المتنقلة التي لا تبقى فيها آثار السائرين واحتفروا وشيدوا مصانع للمياه وهي الصهاريج تجمع ماء المطر في الشتاء ليشرب منها المسافرون وينتفع بها الحاضرون في زمن قلة الأمطار وبنوا حصونا وقصورا على أشراف من الأرض وهذا من الأعمال النافعة في ذاتها لأن فيها حفظ الناس من الهلاك في الفيافي بضلال الطرق ومن الهلكة عطشا إذا فقدوا الماء وقت الحاجة إليه فمتى أريد بها رضى الله تعالى بنفع عبيده كانت جديرة بالثناء عاجلا والثواب آجلا .
فأما إذا أهمل إرضاء الله تعالى بها واتخذت للرياء والغرور بالعظمة وكانوا معرضين عن التوحيد وعن عبادة الله انقلبت عظمة دنيوية محضة لا ينظر فيها إلى جانب النفع ولا تحث الناس على الاقتداء في تأسيس أمثالها وقصاراها التمدح بما وجدوه منها . فصار وجودها شبيها بالعبث لأنها خلت عن روح المقاصد الحسنة فلا عبرة عند الله بها لأن الله خلق هذا العالم ليكون مظهر بعادته وطاعته . وكانوا أيضا في الإعراض عن الآخرة والاقتصار على التزود للحياة الدنيا بمنزلة من يحسبون أنفسهم خالدين في الدنيا .
والأعمال إذا خلت عن مراعاة المقاصد التي ترضي الله تعالى اختلفت مشارب عمليها طرائق قددا على اختلاف الهمم واجتلاب المصالح الخاصة فلذلك أنكرها عليهم رسولهم بالاستفهام الإنكاري على سنة المواعظ فإنها تبنى على مراعاة ما في الأعمال من الضر الراجح على النفع فلا يلفت الواعظ إلى ما عسى أن يكون في الأعمال من مرجوح إذا كان ذلك النفع مرغوبا للناس فإن باعث الرغبة المنبث في الناس مغن عن ترغيبهم فيه وتصدي الواعظ لذلك فضول وخروج عن المقصد بتحذيرهم أو تحريضهم فيما عدا ذلك وإذا كان الباعث على الخير مفقودا أو ضئيلا . وقد كان هذا المقام مقام موعظة كما دل عليه قوله تعالى عنهم ( قالوا سواء علينا أوعظت أم لن تكن من الواعظين ) . ومقام الموعظة أوسع من مقام تغيير المنكر فموعظة هود عليه السلام متوجهة إلى ما في نفوسهم من الأدواء الروحية وليس في موعظته أمر بتغيير ما بنوه من العلامات ولا ما اتخذوه من المصانع .
ولما صار أثر البناء شاغلا عن المقص النافع للحياة في الآخرة نزل فعلهم المفضي إلى العبث منزلة الذي أريد منه العبث عند الشروع فيه فأنكر عليهم البناء بإدخال همزة الإنكار على فعل ( تبنون ) وقيد بجملة ( تعبثون ) التي هي في موضع الحال من فاعل ( تبنون ) مع أنهم لما بنوا ذلك ما أرادوا بفعلهم عبثا فمناط الإنكار من الاستفهام الإنكاري هو البناء المقيد بالعبث لأن الحكم إذا دخل على مقيد بقيد انصرف إلى ذلك القيد .
وكذلك المعطوف على الفعل المستفهم عنه وهو جملة ( وتتخذون مصانع ) هو داخل في حيز الإنكار ومقيد بها المعطوف عليه بناء على أن الحال المتوسطة بين الجملتين ترجع إلى كلتيهما على رأي كثير من علماء أصول الفقه لا سيما إذا قامت القرينة على ذلك