وأما معناه فهو استفهام مؤذن بأن قومه فصلوا إجمال وصفهم أتباعه بالأرذلين بأن بينوا أوصافا من أحوال أهل الحاجة الذين لا يعبأ الناس فأتى بالاستفهام عن علمه استفهاما مستعملا في قلة الاعتناء بالمستفهم عنه وهو كناية عن قلة جدواه لأن الاستفهام عن الشيء يؤذن بالجهل به والجهل تلازمه قلة العناية بالمجهول وضعف شأنه كما يقال لك : يهددك فلان فتقول : وما فلان أي لا يعبأ به . وفي خبر وهب بن كيسان عن جابر بن عبد الله أن أبا عبيدة كان يقوتنا كل يوم تمرة فقال وهب : قلت وما تغني عنكم تمرة .
والمعنى : أي شيء علمي بما كانوا يعملون حتى اشتغل بتحصيل علم ما كانوا يعملون وأعمالهم بما يناسب مراتبهم فأنا لا أهتم بما قبل إيمانهم .
وضمن ( علمي ) معنى اشتغالي واهتمامي فعدي بالباء .
و ( ما كانوا يعملون ) موصول ما صدقه الحالة لأن الحالة لا تخلو من عمل . فالمعنى : وما علمي بأعمالهم . وهذا كما يقال في السؤال عن أحد : ماذا فعل فلان ؟ أي ما خبره وما حاله ؟ ومنه قول النبي A للصبي الأنصاري " يا أبا عمير ما فعل النغير " لطائر يسمى النغر " بوزن صرد " وهو من نوع البلبل كان عند الصبي يلعب به ومنه قوله لمن سأله عن الذين ماتوا من صبيان المشركين " الله أعلم بما كانوا عاملين " أي الله اعلم بحالهم فهو إمساك عن الجواب . وقريب منه قول العرب : ما باله أي ما حاله ؟ .
A E وفعل ( كانوا ) مزيد بين ( ما ) الموصولة وصلتها لإفادة التأكيد أي تأكيد مدلول ( ما علمي بما كانوا يعملون ) . والمعنى : أي شيء علمي بما يعملون . وليس المراد بما كانوا عملوه من قبل . والواو في قوله ( بما كانوا ) فاعل وليست اسما ل ( كان ) لأن ( كان ) الزائدة لا تنصب الخبر .
وشمل قوله ( بما كانوا يعملون ) جميع أحوالهم في دينهم ودنياهم في الماضي والحال والمستقبل والظاهر والباطن .
والحساب حقيقته : أن الله هو الذي يتولى معاملتهم بما أسلفوا وما يعملون وبحقائق أعمالهم . وهذا المقال اقتضاه قوله ( وما علمي بما كانوا يعملون ) من شموله جميع أعمالهم الظاهرة والباطنة التي منها ما يحاسبون عليه وهو الأهم عند الرسول المشرع فلذلك لما قال ( وما علمي بما كانوا يعملون ) أتبعه بقوله ( إن حسابهم إلا على ربي ) على عادة أهل الإرشاد في عدم إهمال فرصته . وهذا كقول النبي A : ( فإذا قالوها ( أي لا إله إلا الله ) عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ) أي تحقيق مطابقة باطنهم لظاهرهم على الله .
وزاد نوح قوله بيانا بقوله ( وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين ) وبين هذا المعنى قوله في الآية الأخرى ( الله أعلم بما في أنفسهم ) في سورة هود .
والقصر في قوله ( إن حسابهم إلا على ربي ) قصر موصوف على الصفة والموصوف هو حسابهم والصفة هي على ربي لأن المجرور الخبر في قوة الوصف فإن المجرورات والظروف الواقعة أخبارا تتضمن معنى يتصف به المبتدأ وهو الحصول والثبوت المقدر في الكلام بكائن أو مستقر كما بينه علماء النحو . والتقدير : حسابهم مقصور على الاتصاف بمدلول ( على ربي ) . وكذلك قدره السكاكي في المفتاح وهو قصر إفراد إضافي أي لا يتجاوز الكون على ربي إلى الاتصاف بكونه علي . وهو رد لما تضمنه كلام قومه من مطالبته بإبعاد الذين آمنوا لأنهم لا يستحقون أن يكونوا مساوين لهم في الإيمان الذي طلبه نوح من قومه .
وقوله ( لو تشعرون ) تجهيل لهم ورغم لغرورهم وإعجابهم الباطل . وجواب ( لو ) محذوف دل عليه ما قبله . والتقدير : لو تشعرون لشعرتم بأن حسابهم على الله لا علي فلما سألتمونيه . ودل على أنه جهلهم قوله في سورة هود ( ولكنكم قوم تجهلون ) . هذا هو التفسير الذي يطابق نظم الآية ومعناها من غير احتياج إلى زيادات وفروض .
والمفسرون نحوا منحى تأويل ( الأرذلون ) أنهم الموصوفون بالرذالة الدنية أي الطعن في صدق إيمان من آمن به وجعلوا قوله ( وما علمي بما كانوا يعملون ) تبرؤا من الكشف على ضمائرهم وصحة إيمانهم . ولعل الذي حملهم على ذلك هو لفظ الحساب في قوله ( إن حسابهم إلا على ربي ) فحملوه على الحساب الذي يقع يوم الجزاء وذلك لا يثلج له الصدر