وضمير الخطاب في ( نسويكم ) موجه إلى الأصنام وهو من توجيه المتندم الخطاب إلى الشيء الذي لا يعقل وكان سببا في الأمر الذي جر إليه الندامة بتنزيله منزلة من يعقل ويسمع . والمقصود من ذلك المبالغة في توبيخ نفسه . ومنه ما روى الغزالي في الإحياء : أن عمر بن الخطاب دخل على أبي بكر الصديق فوجده ممسكا بلسانه بأصبعيه وهو يقول : أنت أوردتني الموارد . وعن ابن مسعود أنه وقف على الصفا يلبي ويقول : يا لسان قل خيرا تغنم واسكت عن شر تسلم . وهذا أسلوب متبع في الكلام نثرا ونظما قال أبو تمام : .
" فيا دمع أنجدنى على ساكني نجد وصيغ ( نسويكم ) في صيغة المضارع لاستحضار الصورة العجيبة حين يتوجهون إلى الأصنام بالدعاء والنعوت الإلهية .
وقولهم ( وما أضلنا إلا المجرمون ) خطاب بعض العامة لبعض . وعنوا بالمجرمين أيمة الكفر الذين ابتدعوا لهم الشرك واختلقوا لهم دينا .
والمناسب أن يكون التعريف في ( المجرمون ) مستعملا في كمال الإجرام فإن من معاني اللام أن تدل على معنى الكمال .
ورتبوا بالفاء انتفاء الشافعين على جملة ( وما أضلنا إلا المجرمون ) حيث أطمعوهم بشفاعة الأصنام لهم عند الله مثل المشركين من العرب ( ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عن الله ) فتبين لهم أن لا شفاعة لها وهذا الخبر مستعمل في التحسر والتوجع .
والشافع : الذي يكون واسطة جلب نفع لغيره أو دفع ضر عنه . وتقدم ذكر الشفاعة في قوله ( ولا تنفعها شفاعة ) في البقرة والشفيع في أول سورة يونس .
A E وأما قولهم ( ولا صديق حميم ) فهو تتميم أثاره ما يلقونه من سوء المعاملة من كل من يمرون به أو يتصلون ومن الحرمان الذي يعاملهم كل من يسألونه الرفق بهم حتى علموا أن جميع الخلق تتبرأ منهم كما قال تعالى ( ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب ) فإن الصديق هو الذي يواسيك أو يسلسك أو يتوجع ويومئذ حقت كلمة الله ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ) . وتقدم الكلام على الصديق في قوله تعالى ( أو صديقكم ) في سورة النور .
والحميم : القريب فعيل من حم " بفتح الحاء " إذ دنا وقرب أخص من الصديق .
والمراد جنس الشفيع وجنس الصديق لوقوع الاسمين في سياق النفي المؤكد ب ( من ) الزائدة وفي ذلك السياق يستوي المفرد والجمع في الدلالة على الجنس . وإنما خولف بين اسمي هذين الجنسين في حكاية كلامهم إذ جيء ب ( شافعين ) جمعا وب ( صديق ) مفردا لأنهم أرادوا بالشافعين الآلهة الباطلة وكانوا يعهدونهم عديدين فجرى على كلامهم ما هو مرتسم في تصورهم . وأما الصديق فإنه مفروض جنسه دون عدد أفراده إذ لم يعنوا عددا معينا فبقي على أصل نفي الجنس وعلى الأصل في الألفاظ إذ لم يكن داع لغير الإفراد . والذي يبدو لي أنه أوثر جمع ( شافعين ) لأنه أنسب بصورة ما في أذهانهم كما تقدم . وأما إفراد ( صديق ) فلأنه أريد أن يجرى عليه وصف ( حميم ) فلو جيء بالموصوف جمعا لاقتضى جمع وصفه وجمع ( حميم ) فيه ثقل لا يناسب منتهى الفصاحة ولا يليق بصورة الفاصلة مع ما حصل في ذلك من التفنن الذي هو من مقاصد البلغاء .
ثم فرعوا على هذا التحسر والندامة تمني أن يعادوا إلى الدنيا ليتداركوا أمرهم في الإيمان بالله وحده .
و ( لو ) هذه للتمني وأصلها ( لو ) الشرطية لكنها تنوسي منها معنى الشرط .
وأصلها : لو أرجعنا إلى الدنيا لآمنا لكنه إذا لم يقصد تعليق الامتناع على امتناع تمحضت ( لو ) للتمني لما بين الشيء الممتنع وبين كونه متمنى من المناسبة . والكرة : مرة من الكر وهو الرجوع .
وانتصب ( فتكون ) في جواب التمني .
( إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين [ 103 ] وإن ربك لهو العزيز الرحيم [ 104 ] ) .
تكرير ثالث لهاته الجملة تعدادا على المشركين وتسجيلا لتصميمهم . واسم الإشارة إشارة إلى كلام إبراهيم عليه السلام فإن فيه دليلا بينا على الوحدانية الله تعالى وبطلان إلهية الأصنام فكما لم يهتد بها قوم إبراهيم فما كان أكثر المشركين بمكة بمؤمنين بها بعد سماعها ولكن التبليغ حق على الرسول صلى الله عليه وسلم . وقد تقدم الكلام على نظير هذه الآية