والسليم : الموصوف بقوة السلامة والمراد بها هنا السلامة المعنوية المجازية أي الخلوص من عقائد الشرك مما يرجع إلى معنى الزكاء النفسي . وضده المريض مرضا مجازيا قال تعالى ( في قلوبهم مرض ) . والاقتصار على السليم هنا لأن السلامة باعث الأعمال الصالحة والظاهرية وإنما تثبت للقلوب هذه السلامة في الدنيا باعتبار الخاتمة فيأتون بها سالمة يوم القيامة بين يدي ربهم .
( وأزلفت الجنة للمتقين [ 90 ] وبرزت الجحيم للغاوين [ 91 ] وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون [ 92 ] من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون [ 93 ] فكبكبوا فيها هم والغاوون [ 94 ] وجنود إبليس أجمعون [ 95 ] ) .
الظاهر أن الواو في قوله ( وأزلفت الجنة للمتقين ) واو الحال والعامل فيها ( لا ينفع مال ) أي يوم عدم نفع من عدا من أتى الله بقلب سيلم وقد أزلفت الجنة للمتقين . والخروج إلى تصوير هذه الأحوال شيء اقتضاه مقام الدعوة إلى الإيمان بالرغبة والرهبة لأنه ابتدأ الدعوة بإلقاء السؤال على قومه فيما يعبدون إيقاظا لبصائرهم ثم أعقب ذلك بإبطال إلهية أصنامهم . والاستدلال على عدم استئهالها الإلهية بدليل التأمل وهو أنها فاقدة السمع والبصر وعاجزة عن النفع والضر ثم طال دليل التقليد الذي نحا إليه قومه لما عجزوا عن تأييد دينهم بالنظر .
A E فلما نهضت الحجة على بطلان إلهية أصنامهم انتصب لبيان الإله الحق رب العالمين الذي له صفات التصرف في الأجسام والأرواح تصرف المنعم المتوحد بشتى التصرف إلى أن يأتي تصرفه بالإحياء المؤبد وأنه الذي نطمع في تجاوزه عنه يوم البعث فليعلموا أنهم إن استغفروا الله عما سلف منهم من كفر فإن الله يغفر لهم وأنهم أن لم يقلعوا عن الشرك لا ينفعهم شيء يوم البعث ثم صور لهم عاقبة حالي التقوى والغواية بذكر دار إجزاء الخير ودار إجزاء الشر .
ولما كان قومه مستمرين على الشرك ولم يكن يومئذ أحد مؤمنا غيره وغير زوجه وغير لوط ابن أخيه كان المقام بذكر الترهيب أجدر فلذلك أطنب في وصف حال الضالين يوم البعث وسوء مصيرهم حيث يندمون على ما فرطوا في الدنيا من الإيمان والطاعة ويتمنون أن يعودوا إلى الدنيا ليتداركوا الإيمان ولات ساعة مندم .
والإزلاف : التقريب . وقدم تقدم في قوله ( وأزلفنا ثم الآخرين ) في هذه السورة . والمعنى : أن المتقين يجدون الجنة حاضرة فلا يتجشمون مشقة السوق إليها .
واللام في ( للمتقين ) لام التعدية .
( وبرزت ) مبالغة في أبرزت لأن التضعيف فيه مبالغة ليست في التعدية بالهمزة ونظيره في قوله تعالى ( وبرزت الجحيم لمن يرى ) في سورة النازعات . والمراد ب ( الغاوين ) الموصوفون بالغواية أي ضلال الرأي .
وذكر ما يقال للغاوين للإنحاء عليهم وإظهار حقارة أصنامهم فقيل لهم ( أين ما كنتم تعبدون ) وفي الاقتصار على ذكر هذا دون غيره مما يخاطبون به يومئذ مناسبة لمقام طلب الإقلاع عن عبادة تلك الأصنام .
وأسند فعل القول إلى غير معلوم لأن الغرض تعلق بمعرفة القول لا بمعرفة القائل فالقائل الملائكة بإذن من الله تعالى لأن المشركين أحقر من أن يوجه الله إليهم خطابه مباشرة .
والاستفهام في قوله ( أينما كنتم تعبدون ) استفهام عن تعيين مكان الأصنام إن لم تكن حاضرة أو عن عملها إن كانت حاضرة في ذلك الموقف تنزيلا لعدم جدواها فيما كانوا يأملونه منها منزلة العدم تهكما وتوبيخا وتوقيفا على الخطأ .
والاستفهام في ( هل ينصرونكم ) كذلك مع الإنكار أن تكون الأصنام نصراء . والانتصار طلب النصير .
وكتب ( أينما ) في المصاحف موصولة نون ( أين ) بميم ( ما ) والمتعارف في الرسم القياسي أن مثله يكتب مفصولا لأن ( ما ) هنا اسم موصول وليست المزيدة بعد ( أين ) التي تصير ( أين ) بزيادتها اسم شرط لعموم الأمكنة ورسم المصحف سنة متبعة .
و ( أو ) للتخيير في التوبيخ والتخطئة أي هل أخطأتم في رجاء نصرها إياكم أو في الأقل هل تستطيع نصر أنفسها وذلك حين يلقى بالأصنام في النار بمرأى من عبدتها ولذلك قال ( فكبكبوا فيها ) أي كبكبت الأصنام في جهنم