وفيه أيضا تذكير قومه بأن أصنامهم لا تغنى عنهم شيئا ونفي نفع المال صادق بنفي وجود المال يومئذ من باب ( على لاحب لا يهتدى بمناره ) أي لا منار له فيهتدي به وهو استعمال عربي إذا قامت عليه القرينة . ومن عبارات علم المنطق ( السالبة تصدق بنفي الموضوع ) .
والاقتصار على المال والبنين في نفي النافعين جرى على غالب أحوال القبائل في دفاع أحد عن نفسه بأن يدافع إما بفدية وإما بنجدة ( وهي النصر ) فالمال وسيلة الفدية والبنون أحق من ينصرون أباهم ويعتبر ذلك النصر عندهم عهدا يجب الوفاء به . قال قيس بن الخطيم : .
ثأرت عديا والخيم ولم أضع ... ولاية أشياخ جعلت إزاءها واقتضى ذلك أن انتفاء نفع ما عدا المال والبنين من وسائل الدفاع حاصل بالأولى بحكم دلالة الاقتضاء المستندة إلى العرف . فالكلام من قبيل الاكتفاء كأنه قيل : يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا شيء آخر . وقوله ( إلا من أتى الله بقلب سليم ) استثناء من مفعول ( ينفع ) أي إلا منفوعا أتى الله بقلب سليم .
هذا معنى الآية وهو مفهوم للسامعين فلذلك لم يؤثر على أحد من سلف المفسرين عد هذه الآية من متشابه المعنى وإنما أعضل على خلفهم طريق استخلاص هذا المعنى المجمل من تفاصيل أجزاء تركيب الكلام . وذكر صاحب الكشاف احتمالات لا يسلم شيء منها من تقدير حذف فبنا أن نفصل وجه استفادة هذا المعنى من نظم الآية بوجه يكون أليق بتركيبها دون تكلف .
A E فاعلم أن فعل ( ينفع ) رافع لفاعل ومتعد إلى مفعول فهو بحق تعدية إلى المفعول يقتضي مفعولا كما يصلح لأن تعلق به متعلقات بحروف تعدية أي حروف جر وإن أول متعلقاته خطورا بالذهن متعلق سبب الفعل فيعلم أن قوله ( يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ) يشير إلى فاعل ( ينفع ) ومفعوله وسببه الذي يحصل به فقوله ( بقلب سليم ) هو المتعلق بفعل ( أتى الله ) لأن فاعل الإتيان إلى الله هو المنفوع فهو في المعنى مفعول فعل ( ينفع ) والمتعلق بأحد فعليه وهو فعل ( أتى ) الذي هو فاعله متعلق في المعنى بفعله الآخر وهو ( ينفع ) الذي ( من أتى الله ) مفعوله . فعلم أن تقدير الكلام : يوم لا ينفع نافع أو شيء أو نحو ذلك مما يفيد عموم نفي النافع حسبما دل عليه ( مال ولا بنون ) من عموم الأشياء كما قررنا . وحذف مفعول ( ينفع ) لقصد العموم كحذفه في قوله تعالى ( والله يدعو إلى دار السلام ) أي يدعو كل أحد فتحصل أن التقدير : يوم لا ينفع أحدا شيء يأتي به للدفع عن نفسه .
والمستثنى وهو ( من أتى الله بقلب سليم ) متعين لأن يكون استثناء من مفعول ( ينفع ) وليس مستثنى من فاعل ( ينفع ) لأن من أتى الله بقلب سليم يومئذ هو منفوع لا نافع فليس مستثنى من صريح أحد الاسمين السابقين قبله ولا مما دل عليه الايمان من المعنى الأعم الذي قدرناه بمعنى ( ولا غيرهما ) فتمحض أن يكون هذا المستثنى مخرجا من عموم مفعول ( ينفع ) . وتقديره : إلا أحد أتى الله بقلب سليم أي فهو منفوع واستثناؤه من مفعول فعل ( ينفع ) يضطرنا إلى وجوب تقدير نافعه فاعل فعل ( ينفع ) أي فإن نفعه شيء نافع . ويبين إجماله متعلق فعل ( ينفع ) وهو ( بقلب سليم ) إذ كان القلب السليم سبب النفع فهو أحد أفراد الفاعل العام المقدر بلفظ ( شيء ) كما تقدم آنفا .
فالخلاصة أن الذي يأتي الله يومئذ بقلب سليم هو منفوع بدلالة الاستثناء وهو نافع ( أي نافع نفسه ) بدلالة المجرور المتعلق بفعل ( أتى ) فإن القلب السليم قلب ذلك الشخص المنفوع فصار ذلك الشخص نافعا ومنفوعا باختلاف الاعتبار وهو ضرب من التجريد . وقريب من وقوع الفاعل مفعولا في باب ظن في قولهم : خلتني ورأيتني فجعل القلب السيم سببا يحصل به النفع ولهذا فالاستثناء متصل مفرغ عن المفعول . وقد حصل من نسج الكلام على هذا المنوال إيجاز مغن أضعاف من الجمل الطويلة . وجعل الاستثناء منقطعا لا يدفع الإشكال .
والقلب : الإدراك الباطني