و ( بل ) في حكاية جواب القوم لإضراب الانتقال من مقام إثبات صفاتهم إلى مقام قاطع للمجادلة في نظرهم وهو أنهم ورثوا عبادة هذه الأصنام فلما طووا بساط المجادلة في صفات آلهتهم وانتقلوا إلى دليل التقليد تفاديا من كلفة النظر والاستدلال بالمصير إلى الاستدلال بالاقتداء بالسلف .
وقوله ( كذلك يفعلون ) تشبيه فعل الآباء بفعلهم وهو نعت لمصدر محذوف والتقدير : يفعلون فعلا كذلك الفعل . وقدم الجار والمجرور على ( يفعلون ) للاهتمام بمدلول اسم الإشارة .
واقتصر إبراهيم في هذا المقام ( الذي رجحنا أنه أول مقام قام فيه الدعوة ) على أن أظهر قلة اكتراثه بهذه الأصنام فقال ( فإنهم عدو لي ) لأنه أيقن بأن سلامته بعد ذلك تدل على أن الأصنام لا تضر وإلا لضرته لأنه عدوها .
وضمير ( فإنهم ) عائد إلى ( ما كنتم تعبدون ) . وقوله ( وآباؤكم ) عطف على اسم ( كنتم ) . والعدو : مشتق من العدوان وهو الإضرار بالفعل أو القول . والعدو : المبغض فعدو : فعول بمعنى فاعل يلازم الإفراد والتذكير فلا تلحقه علامات التأنيث ( إلا نادرا كقول عمر لنساء من الأنصار : يا عدوات أنفسهن ) . قال في الكشاف : حملا على المصدر الذي على وزن فعول كالقبول والولوع .
والأصنام لا إدراك لها فلا توصف بالعداوة . ولذلك فقوله ( فإنهم عدو لي ) من قبيل التشبيه البليغ أي هم كالعدو لي في أني أبغضهم وأضرهم . وهذا قريب من قوله تعالى ( إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا ) أي عاملوه معاملة العدو عدوه . وبهذا الاعتبار جمع بين قوله ( لكم عدو ) وقوله ( فاتخذوه عدوا ) .
والتعبير عن الأصنام بضمير جمع العقلاء في قوله ( فإنهم ) دون ( فإنها ) جري على غالب العبارات الجارية بينهم عن الأصنام لأنهم يعتقدونها مدركة .
وجملة ( أفرأيتم ما كنتم تعبدون ) مفرعة على جمل كلام القوم المتضمنة عبادتهم الأصنام وأنهم مقتدون في ذلك بآبائهم . فالفاء في ( أفرأيتم ) للتفريع وقدم عليها همزة الاستفهام اتباعا للاستعمال المعروف وهو صدارة أدوات الاستفهام . وفعل الرؤية قلبي .
ومثل هذا التركيب يستعمل في التنبيه على ما يجب أن يعلم على إرادة التعجيب مما يعلم من شأنه . ولذلك كثر إردافه بكلام يشير إلى شيء من عجائب أحوال مفعول الرؤية كقوله تعالى ( أفرأيت الذي تولى وأعطى قليلا ) الآية ومنه تعقيب قوله هنا ( أفرأيتم ما كنتم تعبدون ) بقوله ( فإنهم عدو لي ) .
A E وعطف ( آباؤكم ) على ( أنتم ) لزيادة إظهار قلة اكتراثه بتلك الأصنام مع العلم بأن الأقدمين عبدوها فتضمن ذلك إبطال شبهتهم في إستحقاقها العبادة .
ووصف الآباء بالأقدمية إيغال في قلة الاكتراث بتقليدهم لأن عرف الأمم أن الآباء كلما تقادم عهدهم كان تقليدهم آكد .
والفاء في قوله ( فإنهم عدو لي ) للتفريع على ما اقتضته جملة ( أفرأيتم ما كنتم تعبدون ) من التعجيب من شأن عبادتهم إياها . ويجوز جعل الرؤية بصرية لها مفعول واحد وجعل الاستفهام تقريريا والكلام مستعمل في التنبيه لشيء يريد المتكلم الحديث عنه ليعيه السامع حق الوعي أو فاء فصيحة بتقدير : إن رأيتموهم فاعلموا أنهم عدو لي . وهذا الوجه أظهر . والاستثناء في قوله ( إلا رب العالمين ) منقطع . و ( إلا ) بمعنى ( لكن ) إذ كان رب العالمين غير مشمول لعبادتهم إذ الظاهر أنهم ما كانوا يعترفون بالخالق ولم يكونوا يجعلون آلهتهم شركاء لله كما هو حال مشركي العرب ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى ( قال بل فعله كبيرهم هذا ) فهو الصنم الأعظم عندهم وإلى قوله ( قال أتحاجوني في الله وقد هدان ) . ويظهر أن الكلدانيين ( قوم إبراهيم ) لم يكونوا يؤمنون بالخالق الذي لا تدركه الأبصار . وكان أعظم الآلهة عندهم هو كوكب الشمس والصنم الذي يمثل الشمس هو ( بعل ) فوظيفة الأصنام عندهم هو تدبير شؤون الناس في حياتهم . وأما الإيجاد والإعدام فكانوا من الذين يقولون ( وما يهلكنا إلا الدهر ) وأن الإيجاد من أعمال التناسل وهم في غفلة عن سر تكوين تلك النظم الحيوانية وإيداعها فيها . وقد يكونون معترفين برب عظيم للأكوان وإنما جعلوا الأصنام شركاء له في التصرف في نظام تلك المخلوقات كما كان حال الإشراك في العرب فيكون الاستثناء متصلا لأن الله من جملة معبوديهم أي إلا الرب الذي خلق العوالم . وتقدم ذكر أصنام قوم إبراهيم في سورة الأنبياء . وانظر ما يأتي في سورة العنكبوت