ونبأ إبراهيم : قصته المذكورة هنا أي اقرأ عليهم ما ينزل عليك الآن من نبأ إبراهيم . وإنما أمر الرسول A بتلاوته للإشارة إلى أن الكلام المتضمن نبأ إبراهيم هو آية معجزة وما تضمنته من دليل العقل على انتفاء إلهية الأصنام التي هي كأصنام العرب آية أيضا . فحصل من مجموع ذلك آيتان دالتان على صدق الرسول . وتقدم ذكر إبراهيم عند قوله تعالى ( وإذ ابتلى إبراهيم ) في البقرة .
و ( إذ قال ) ظرف أي حين قال . والجملة بيان للنبأ لأن الخبر عن قصة مضت فناسب أن تبين باسم زمان مضاف إلى ما يفيد القصة . وقد تقدم نظيره في قوله تعالى ( واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم ) الآية في سورة يونس .
و ( ما ) اسم استفهام يسأل به عن تعيين الجنس كما تقدم في قوله ( وما رب العالمين ) في هذه السورة . والاستفهام صوري فإن إبراهيم يعلم أنهم يعبدون أصناما ولكنه أراد بالاستفهام افتتاح المجادلة معهم فألقى عليهم هذا السؤال ليكونوا هم المبتدئين بشرح حقيقة عبادتهم ومعبوداتهم فتلوح لهم من خلال شرح ذلك لوائح ما فيه من فساد لأن الذي يتصدى لشرح الباطل يشعر بما فيه من بطلان عند نظم معانيه أكثر مما يشعر بذلك من يسمعه ولأنه يعلم أن جوابهم ينشأ عنه ما يريده من الاحتجاج على فساد دينهم وقد أجابوا استفهامه بتعيين نوع معبوداتهم .
وأدخل أباه في إلقاء السؤال عليهم : إما لأنه كان حاضرا في مجلس قومه إذ كان سادن بيت الأصنام كما روي وإما لأنه سأله على انفراد وسأل قومه مرة أخرى فجمعت الآية حكاية ذلك .
والأظهر أن إبراهيم ابتدأ بمحاجة أبيه ثم انتقل إلى محاجة قومه وأن هذه هي المحاجة الأولى في ملأ أبيه وقومه ؛ ألقى فيها دعوته في صورة سؤال استفسار غير إنكار استنزالا لطائر نفورهم وأما قوله في الآية الأخرى ( إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أإفكا آلهة دون الله تريدون ) فذلك مقام آخر له في قومه مقترنا بما يقتضي التعجب من حالهم بزيادة كلمة ( ذا ) بعد ( ما ) الاستفهامية في سورة الصافات . وكلمة ( ذا ) إذا وقعت بعد ( ما ) تؤول إلى معنى اسم الموصول فصار المعنى في سورة الأنبياء : ما هذا الذي تعبدونه فصار الإنكار مسلطا إلى كون تلك الأصنام تعبد .
A E والظاهر أنه ألقى عليهم السؤال حين تلبسهم بعبادة الأصنام كما هو مناسب الإتيان بالمضارع في قوله ( تعبدون ) وما فهم قومه من كلامه إلا الاستفسار فأجابوا : بأنهم يعبدون أصناما يعكفون على عبادتها .
والتنوين في ( أصناما ) للتعظيم لذا عدل عن تعريفها وهم يعلمون أن إبراهيم يعرفها ويعلم أنهم يعبدونها . واسم الأصنام عندهم اسم عظيم فهم يفتخرون به على عكس أهل التوحيد . ولهذا قال إبراهيم لهم في مقام آخر ( إنما تعبدون من دون الله أوثانا ) على وجه التحقير لمعبوداتهم والتحميق لهم . وأتوا في جوابهم بفعل ( نعبد ) مع أن الشأن الاستغناء عن التصريح إذ كان جوابهم عن سؤال فيه ( تعبدون ) . فلا حاجة إلى تعيين جنس المعبودات فيقولوا أصناما كما في قوله تعالى ( ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ) ( ماذا قال ربكم قالوا الحق ) ( ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا ) فعدلوا عن سنة الجواب إلى تكرير الفعل الواقع في السؤال ابتهاجا بهذا الفعل وافتخارا به ولذلك عطفوا على قولهم ( نعبد ) ما يزيد فعل العبادة تأكيدا بقولهم ( فنظل لها عاكفين ) . وفي فعل ( نظل ) دلالة الاستمرار جميع النهار . وأيضا فهم كانوا صابئة يعبدون الكواكب وجعلوا الأصنام رموزا على الكواكب تكون خلفا عنها في النهار فإذا جاء الليل عبدوا الكواكب الطالعة .
وضمن ( عاكفين ) معنى ( عابدين ) فعدي إليه الفعل باللام دون ( على ) . ولما كان شأن الرب أن يلجأ إليه في الحاجة وأن ينفع أو يضر ألقى إبراهيم عليهم استفهاما عن حال هذه الأصنام هل تسمع دعاء الداعين وهل تنفع أو تضر تنبيها على دليل انتفاء الإلهية عنها .
وكانت الأمم الوثنية تعبد الوثن لرجاء نفعه أو لدفع ضره ولذلك عبد بعضهم الشياطين .
وجعل مفعول ( يسمعونكم ) ضمير المخاطبين توسعا بحذف مضاف تقديره : هل يسمعون دعاءكم دل عليه الظرف في قوله ( إذ تدعون ) . وأراد إبراهيم فتح المجادلة ليعجزوا على إثبات أنها تسمع وتنفع