والمعنى : أن الله أرزأ أعداء موسى ما كان لهم من نعيم إذ أهلكهم وأعطى بني إسرائيل خيرات مثلها لم تكن لهم وليس المراد أنه أعطى بني إسرائيل ما كان بيد فرعون وقومه من الجنات والعيون والكنوز لأن بني إسرائيل فارقوا أرض مصر حينئذ وما رجعوا إليها كما يدل عليه قوله في سورة الدخان ( كذلك وأورثناها قوما آخرين ) . ولا صحة لما يقوله بعض أهل قصص القرآن من أن بني إسرائيل رجعوا فملكوا مصر بعد ذلك فإن بني إسرائيل لم يملكوا مصر بعد خروجهم منها سائر الدهر فلا محيص من صرف الآية عن ظاهرها إلى تأويل يدل عليه التاريخ ويدل عليه ما في سورة الدخان .
فضمير ( وأورثناها ) هنا عائد للأشياء المعدودة باعتبار أنها أسماء أجناس أي أورثنا بني إسرائيل جنات وعيونا وكنوزا فعود الضمير هنا إلى لفظ مستعمل في الجنس وهو قريب من الاستخدام وأقوى منه أي أعطيناهم أشياء ما كانت لهم من قبل وكانت للكنعانيين فسلط الله عليهم بني إسرائيل فغلبوهم على أرض فلسطين والشام . وقد يعود الضمير على اللفظ دون المعنى كما في قولهم : عندي درهم ونصفه وقوله تعالى ( إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد ) إذ ليس المراد أن المرء الذي هلك يرث أخته التي لها نصف ما ترك بل المراد : والمرء يرث أختا له إن لم يكن لها ولد ويجوز أن يكون نصب الضمير لفعل ( أورثنا ) على معنى التشبيه البليغ أي أورثنا أمثالها . وقيل ضمير ( أورثناها ) عائد إلى خصوص الكنوز لأن بني إسرائيل استعاروا ليلة خروجهم من جيرانهم المصريين مصوغهم من ذهب وفضة وخرجوا به كما تقدم في سورة طه .
ويجوز عندي وجه آخر وهو أن تكون جملة ( فأخرجناهم من جنات ) إلى قوله ( وأورثناها ) حكاية لكلام من الله معترض بين كلام فرعون . وضمير ( فأخرجناهم ) عائد إلى قوم فرعون المفهوم من قوله ( في المدائن ) أي فأخرجنا أهل المدائن . وحذف المفعول الثاني لفعل ( أورثناها ) . والتقدير : وأورثناها غيرهم ويكون قوله ( بني إسرائيل ) بيانا لاسم الإشارة في قوله ( إن هؤلاء ) سلك به طريق الإجمال ثم البيان ليقع في أنفس السامعين أمكن وقع .
A E وجملة ( فأتبعوهم مشرقين ) مفرعة على جملة ( فأخرجناهم ) وما بينهما اعتراض . والتقدير : فأخرجناهم فأتبعوهم . والضمير المرفوع عائد إلى ما عاد عليه ضمير النصب من قوله ( فأخرجناهم ) وضمير النصب عائد إلى ( عبادي ) من قوله ( أن اسر بعبادي ) .
و ( أتبعوهم ) بهمزة قطع وسكون التاء بمعنى تبع أي فلحقوهم .
و ( مشرقين ) حال من الضمير المرفوع يجوز أن يكون معناه قاصدين جهة الشرق يقال : أشرق إذا دخل في أرض الشرق كما يقال : أنجد وأتهم وأعرق وأشأم ويعلم من هذا أن بني إسرائيل توجهوا صوب الشرق وهو صوب بحر ( القلزم ) وهو البحر الأحمر وسمي يومئذ بحر سوف وهو شرقي مصر . ويجوز أن يكون المعنى داخلين في وقت الشروق أي أدركوهم عند شروق بعد أن قضوا ليلة أو ليالي مشيا فما بصر بعضهم ببعض إلا عند شروق الشمس بعد ليالي السفر .
( فلما ترآءا الجمعان قال أصحب موسى إنا لمدركون [ 61 ] قال كلا إن معي ربي سيهدين [ 62 ] فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم [ 63 ] وأزلفنا ثم الآخرين [ 64 ] وأنجينا موسى ومن معه أجمعين [ 65 ] ثم أغرقنا الآخرين [ 66 ] ) .
أي لما بلغ فرعون وجنوده قريبا من مكان جموع بني إسرائيل بحيث يرى كل فريق منهما الفريق الآخر . فالترائي تفاعل لأنه حصول الفعل من الجانبين .
وقولهم ( إنا لمدركون ) بالتأكيد لشدة الاهتمام بهذا الخبر وهو مستعمل في معنى الجزع . و ( كلا ) ردع . وتقدم في سورة مريم ( كلا سنكتب ما يقول ) ردع به موسى ظنهم أنهم يدركهم فرعون وعلل ردعهم عن ذلك بجملة ( إن معي ربي سيهدين ) .
وإسناد المعية إلى الرب في ( إن معي ربي ) على معنى مصاحبة لطف الله به وعنايته بتقدير أسباب نجاته من عدوه . وذلك أن موسى واثق بأن الله منجيه لقوله تعالى ( إنا معكم مستمعون ) وقوله ( اسر بعبادي إنكم متبعون ) كما تقدم آنفا أنه وعد بضمان النجاة