وقوله ( وإنا لجميع حذرون ) حث لأهل المدائن على أن يكونوا حذرين على ابلغ وجه إذ جعل نفسه معهم في ذلك بقوله ( لجميع ) وذلك كناية عن وجوب الاقتداء به في سياسة المملكة أي إنا كلنا حذرون ف ( جميع ) وقع مبتدأ وخبره ( حذرون ) والجملة خبر ( إن ) و ( جميع ) بمعنى ( كل ) كقوله تعالى ( إليه مرجعكم جميعا ) في سورة يونس .
و ( حذرون ) قرأه الجمهور بدون ألف بعد الحاء فهو جمع حذر وهو من أمثلة المبالغة عند سيبويه والمحققين . وقرأه حمزة وعاصم والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر وخلف بالف بعد الحاء جمع ( حاذر ) بصيغة اسم الفاعل . والمعنى : أن الحذر من شيمته وعادته فكذلك يجب أن تكون الأمة معه في ذلك أي إنا من عادتنا التيقظ للحوادث والحذر مما عسى أن يكون لها من سيء العواقب .
وهذا أصل عظيم من أصول السياسة وهو سد ذرائع الفساد ولو كان احتمال إفضائها إلى الفساد ضعيفا فالذرائع الملغاة في التشريع في حقوق الخصوص غير ملغاة في سياسة العموم ولذلك يقول علماء الشريعة : إن نظر ولاة الأمور في مصالح الأمة أوسع من نظر القضاة فالحذر أوسع من حفظ الحقوق وهو الخوف من وقوع شيء ضار يمكن وقوعه والترصد لمنع وقوعه وتقدم في قوله ( يحذر المنافقون ) في براءة . والمحمود منه هو الخوف من الضار عند احتمال حدوثه دون الأمر الذي لا يمكن حدوثه فالحذر منه ضرب من الهوس .
وهذا يرجح أن يكون المحذور هو الاغترار بإيمان السحرة بالله وتصديق موسى ويبعد أن يكون المراد خروج بني إسرائيل من مصر لأنه حينئذ قد وقع فلا يحذر منه وإنما يكون السعي في الانتقام منهم .
( فأخرجنهم من جنت وعيون [ 57 ] وكنوز ومقام كريم [ 58 ] كذلك وأورثنها بني إسرائيل [ 59 ] فأتبعوهم مشرقين [ 60 ] ) .
A E إن جريت على ما فسر به المفسرون قوله ( فأرسل فرعون في المدائن حاشرين ) لزمك أن تجعل الفاء في وقوله ( فأخرجناهم ) لتفريع الخروج على إرسال الحاشرين أي ابتدأ بإرسال الحاشرين وأعقب ذلك بخروجه فالتعقيب الذي دلت عليه الفاء بحسب ما يناسب المدة التي بين إرسال الحاشرين وبين وصول الأنبياء من أطراف المملكة بتعيين طريق بني إسرائيل إذ لا يخرج فرعون بجنده على وجهه غير عالم بطريقهم . وضمير النصب عائد إلى فرعون ومن معه مفهوما من قوله ( إنكم متبعون ) .
وإن جريت على ما فسرنا به قوله تعالى ( فأرسل فرعون ) ولا أخالك إلا منشرح الصدر لاختيار ذلك فلتجعل الفاء في ( فأخرجناهم ) تفريعا على جملة ( إنكم متبعون ) . والتقدير : فأسرى موسى ببني إسرائيل فأخرجنا فرعون وجنده من بلادهم في طلب بني إسرائيل فاتبعوا بني إسرائيل .
وضمير ( أخرجناهم ) على كل تقدير عائد إلى ما يفهم من المقام أي أخرجنا فرعون وجنده . والجنات : جنات النخيل التي كانت على ضفاف النيل . والعيون : منابع تحفر على خلجان النيل . والكنوز : الأموال المدخرة .
والمقام : أصله محل القيام أو مصدر قام . والمعنى على الأول : مساكن كريمة وعلى الثاني : قيامهم في مجتمعهم والكريم : النفيس في نوعه . وذلك ما كانوا عليه من الأمن والثروة والرفاهية كل ذلك تركه فرعون وجنوده الذين خرجوا منه لمطاردة بني إسرائيل لأنهم هلكوا فلم يرجعوا إلى الشيء مما تركوا .
( كذلك ) تقد الكلام على نظيره عند قوله تعالى ( كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا ) في سورة الكهف فهو بمنزلة الاعتراض .
وجملة ( وأورثناها بني إسرائيل ) معترضة أيضا والواو اعتراضية وليست عطفا لأجزاء القصة لما ستعمله . والإيراث : جعل أحد وارثا . وأصله إعطاء مال الميت ويطلق على إعطاء ما كان ملكا لغير المعطى ( بفتح الطاء ) كما قال تعالى ( وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها ) أي أورثنا بني إسرائيل أرض الشام وقال ( ثم أورثنا الكتاب الذي اصطفينا من عبادنا )