هذه قصه أخرى من أحوال موسى في دعوة فرعون فالواو لعطف القصة ولا تفيد قرب القصة من القصة فقد لبث موسى زمنا يطالب فرعون بإطلاق بني إسرائيل ليخرجوا من مصر وفرعون يماطل في ذلك حتى رأى الآيات التسع كما تقدم في سورة الأعراف . ونظير بعض هذه الآية تقدم في سورة طه . وزادت هذه بقوله ( إنكم متبعون ) أي أعلم الله موسى أن فرعون سيتبعهم بجنده كما في آية سورة طه . والقصد من إعلامه بذلك تشجيعة .
وقرأ نافع وابن كثير وأبو جعفر ( اسر ) بهمزة وصل أمر من ( سرى ) وبكسر نون ( أن ) لأجل التقاء الساكنين . وقرأ الباقون بهمزة قطع وسكون نون ( أن ) . وفعلا سرى وأسرى متحدان كما تقدم في قوله تعالى ( سبحان الذي أسرى ) .
( فأرسل فرعون في المدائن حاشرين [ 53 ] إن هؤلاء لشرذمة قليلون [ 54 ] وإنهم لنا لغائضون [ 55 ] وإنا لجميع حذرون [ 56 ] ) .
ظاهر ترتيب الجمل يقتضي أن الفاء للتعقيب على جملة ( وأوحينا إلى موسى ) وأن بين الجملتين محذوفا تقديره : فأسرى موسى وخرج بهم فأرسل فرعون حاشرين أي لما خرج بنو إسرائيل خشي فرعون أن ينتشروا في مدائن مصر فأرسل فرعون في المدائن شرطا يحشرون الناس ليلحقوا بني إسرائيل فيردوهم إلى المدينة قاعدة الملك .
والمدائن : جمع مدينة أي البلد العظيم . ومدائن القطر المصري يومئذ كثيرة . منها ( ما نوفرى أو منفيس ) هي اليوم ميت رهينة بالجيزة و ( تيبة أو طيبة ) هي بالأقصر و ( أبودو ) وتسمى اليوم العرابة المدفونة و ( بو ) وهي ( بو ) وهي ادنو و ( اون رميسي ) و ( أرمنت ) و ( سنى ) وهي أسناء و ( ساورت ) وهي السيوط و ( خمونو ) وهي الاشمونيين و ( بامازيت ) وهي البهنسا و ( خسوو ) وهي سخا و ( كاريينا ) وهي سد أبي قيرة و ( سودو ) وهي الفيوم و ( كويتي ) وهي قفط .
A E والتعريف في ( المدائن ) للاستغراق أي في مدائن القطر المصري وهو استغراق عرفي أي المدائن التي لحكم فرعون أو المظنون وقوعها قرب طريقهم . وكان فرعون وقومه لا يعلمون أين اتجه بنو إسرائيل فأراد أن يتعرض لهم في كل طريق يظن مرورهم به . وكان لا يدري لعلهم توجهوا صوب الشام أو صوب الصحراء الغربية وما كان يظن أنهم يقصدون شاطئ البحر الأحمر بحر ( القلزم ) وكان يومئذ يسمى بحر ( سوف ) .
وجملة ( إن هؤلاء لشرذمة قليلون ) مقول لقول محذوف لأن ( حاشرين ) يتضمن معنى النداء أي يقولون إن هؤلاء لشرذمة قليلون .
والإشارة ب ( هؤلاء ) إلى حاضر في أذهان الناس لأن أمر بني إسرائيل قد شاع في أقطار مصر في تلك المدة التي بين جمع السحرة وبين خروج بني إسرائيل وليست الإشارة للسحرة خاصة إذ لا يلتئم ذلك مع القصة .
وفي اسم الإشارة إيماء إلى تحقير لشأنهم أكده التصريح بأنهم شرذمة قليلون .
والشرذمة : الطائفة القليلة من الناس هكذا فسره المحققون من أئمة اللغة فإتباعه بوصف ( قليلون ) للتأكيد لدفع احتمال استعمالها في تحقير الشأن أو بالنسبة إلى جنود فرعون فقد كان عدد بني إسرائيل الذين خرجوا ستمائة ألف هكذا قال المفسرون وهو مرافق لما في سفر العدد من التوراة في الإصحاح السادس والعشرين .
و ( قليلون ) خبر ثان عن اسم الإشارة فهو وصف في المعنى لمدلول ( هؤلاء ) وليس وصفا لشرذمة ولكنه لمعناها ولهذا جيء به بصيغة جمع السلامة الذي هو ليس من جموع الكثرة .
و ( قليل ) إذا وصف به يجوز مطابقته لموصوفه كما هنا ويجوز ملازمته الإفراد والتذكير كما قال السموأل أو الحارثي : .
" وما ضرنا أنا قليل...... . . البيت ونظيره في ذلك لفظ ( كثير ) وقد جمعها قوله تعالى ( إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ) .
و ( غائظون ) اسم فاعل من غاظه الذي هو بمعنى أغاظه أي جعله ذا غيظ . والغيظ : أشد الغضب . وتقدم في قوله تعالى ( عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ) في آل عمران وقوله ( ويذهب غيظ قلوبهم ) في سورة براءة أي وأنهم فاعلون ما يغضبنا .
واللام في قوله ( لنا ) لام التقوية واللام في ( لغائظون ) لام الابتداء وتقديم ( لنا ) على ( لغائظون ) للرعاية على الفاصلة