لما رأى موسى سوء فهمهم وعدم اقتناعهم بالاستدلال على الوحدانية بالتكوين المعتاد إذ التبس عليهم الأمر المعتاد بالأمر الذي لا صانع له انتقل موسى إلى ما لا قبل لهم بجحده ولا التباسه وهو التصرف العجيب المشاهد كل يوم مرتين كما إنتقل إبراهيم عليه السلام من الاستدلال على وجود الله بالإحياء والإماتة لما تموه على النمرود حقيقة معنى الإحياء والإماتة فانتقل إبراهيم إلى الاستدلال بطلوع الشمس فيما حكى الله تعالى ( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ) فكانت حجة موسى حجة خليلية .
والمشرق والمغرب يجوز أن يراد بهما مكان شروق الشمس ومكان غروبها في الأفق فيكون تحريكا للاستدلال بما يقع في ذلك المكان من الأفق من شروق الشمس وغربوها فيكون المراد برب المشرق والمغرب خالق ذلك النظام اليومي على طريقة الإيجاز .
A E ويجوز أن يراد بالمشرق والمغرب المصدر الميمي أي رب الشروق والغروب فيكون المراد بالرب الخالق أي مكون الشروق والغروب ويكون المراد بما بينهما على هاذين الوجهين ما بين الحالين وضمير بينهما للمشرق والمغرب فكأنه قيل وما بين المشرق والمغرب وما بين المغرب والمشرق أي ما يقع في خلال ذلك من الأحوال فأما ما بين الشروق والغروب فالضحى والزوال والعصر والاصفرار وأما ما بين الغروب والشروق فالشفق والفجر والإسفار كلها دلائل على تكوين ذلك النظام العجيب المتقن .
وقيل المراد برب المشرق والمغرب مالك الجهتين . وهذا التفسير يفيت مناسبة الكلام لمقام الاستدلال بعظيم ولا يلاقي التذييل الواقع بعده في قوله ( إن كنتم تعقلون ) .
وتانك الجهتان هما منتهى الأرض المعروفة للناس يومئذ فكأنه قيل : رب طرفي الأرض وهو كناية عن كون جميع الأرض ملكا لله . وهذا استدلال عرفي إذ لم يكونوا يعرفون يومئذ ملكا يملك ما بين المشرق والمغرب وما كان ملك فرعون المؤله عندهم إلا لبلاد مصر والسودان .
والتذييل بجملة ( إن كنتم تعقلون ) تنبيه لنظرهم العقلي ليعاودوا النظر فيدركوا وجه الاستدلال أي إن كنتم تعملون عقولكم . ومن اللطائف جعل ذلك مقابل قول فرعون : إن رسولكم لمجنون لأن الجنون يقابله العقل فكان موسى يقول لهم قولا لينا ابتداء فلما رأى منهم المكابرة ووصفوه بالجنون خاشنهم في القول وعارض قول فرعون ( إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ) فقال ( إن كنتم تعقلون ) أي إن كنتم أنتم العقلاء أي فلا تكونوا أنتم المجانين وهذا كقول أبي تمام للذين قالا له ( لم تقول ما لا يفهم ) قال ( لم لا تفهمان ما يقال ) .
( قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين [ 29 ] ) .
لما لم يجد فرعون لحجاجه نجاحا ورأى شدة شكيمة موسى في الحق عدل عن الحجاج إلى التخويف ليقطع دعوة موسى من أصلها . وهذا شأن من قهرته الحجة وفيه كبرياء أن ينصرف عن الجدل إلى التهديد .
واللام في قوله ( لئن اتخذت إلها ) موطئة للقسم . والمعنى أن فرعون أكد وعيده بما يساوي اليمين المجملة التي تؤذن بها اللام الموطئة في اللغة العربية كأن يكون فرعون قال : علي يمين أو بالأيمان أو أقسم . وفعل ( اتخذت ) للاستمرار أي أصررت على أن لك إلها أرسلك وأن تبقى جاحدا للإله فرعون وكان فرعون معدودا إلها للأمة لأنه يمثل الآلهة وهو القائم بإبلاغ مرادها في الأمة فهو الواسطة بينها وبين الأمة .
ومعنى ( لأجعلنك من المسجونين ) لأسجننك فسلك فيه طريقة الإطناب لأنه أنسب بمقام التهديد لأنه يفيد معنى لأجعلنك واحدا ممن عرفت أنهم في سجني فالمقصود تذكير موسى بهول السجن . وقد تقدم أن مثل هذا التركيب يفيد تمكن الخبر من المخبر عنه عند قوله تعالى ( قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ) في سورة البقرة . وقد كان السجن عندهم قطعا للمسجون عن التصرف بلا نهاية فكان لا يدري متى يخرج منه قال تعالى ( فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين )