أعرض فرعون عن خطاب موسى واستثار نفوس الملأ من حوله وهم مجلسه فاستفهمهم استفهام تعجب من حالهم كيف لم يستمعوا ما قاله موسى فنزلهم منزلة من لم يستمعه تهييجا لنفوسهم كي لا تتمكن منهم حجة موسى فسلط الاستفهام على نفي استماعهم كما تقدم . وهذا التعجب من حال استماعهم وسكوتهم يقتضي التعجب من كلام موسى بطريق فحوى الخطاب فهو كناية عن تعجب آخر . ومرجع التعجبين أن إثبات رب واحد لجميع المخلوقات منكر عند فرعون لأنه كان مشركا فيرى توحيد الإله لا يصح السكوت عليه ولكون خطاب فرعون لمن حوله يتضمن جوابا عن كلام موسى حكي كلام فرعون بالصيغة التي اعتيدت في القرآن حكاية المقاولات بها كما تقدم غير مرة كأنه يجيب موسى عن كلامه .
( قال ربكم ورب آبائكم الأولين [ 26 ] ) .
A E كلام موسى هذا في معرض الجواب عن تعجيب فرعون من سكوت من حوله فلذلك كانت حكايته قوله على الطريقة التي تحكى بها المقاولات . ولما كان في كلام فرعون إعراض عن مخاطبة موسى إذ تجاوزه إلى مخاطبة من حوله وجه موسى خطابه إلى جميعهم وإذ رأى موسى أنهم جميعا لم يهتدوا إلى الاقتناع بالاستدلال على خلق الله العوالم الذي ابتدأ به هو أوسع دلالة على وجود الله تعالى واحد فنزل بهم إلى الاستدلال بأنفسهم وبآبائهم إذ أوجدهم الله بعد العدم ثم أعدم آباءهم بعد وجودهم ؛ لان أحوال أنفسهم وآبائهم أقرب إليهم وأيسر استدلالا على خالقهم فالاستدلال الأول يمتاز بالعموم والاستدلال الثاني يمتاز بالقرب من الضرورة فإن كثيرا من العقلاء توهموا السماوات قديمة واجبة الوجود فإما آباؤهم فكثير من السامعين شهدوا انعدام كثير من آبائهم بالموت وكفى به دليلا على انتفاء القدم الدال على انتفاء الإلهية .
وشمل عموم الآباء بإضافته إلى الضمير وبوصفه بالأولين بعض من يزعمونهم في مرتبة الآلهة مثل الفراعنة القدماء الملقبين عندهم بأبناء الشمس والشمس معدودة في الآلهة ويمثلها الصنم ( آمون رع ) .
والرب : الخالق والسيد بموجب الخالقية .
( قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون [ 27 ] ) .
احتد فرعون لما ذكر موسى ما يشمل آباءه المقدسين بذكر يخرجهم من صفغة الإلهية زاعما أن هذا يخالف العقل بالضرورة فلا يصدر إلا من مختل الإدراك وأنه رأى أن الاستدلال بخالقيتهم وخالقية آبائهم عبث لأن فرعون وملأه يرون تكوين الآدمي بالتولد وهم لا يحسبون التكوين الدال على الخالقية إلا التكوين بالطفرة دون التدريج بناء على أن الأشياء المعتادة لا تتفطن إلى دقائقها العقول الساذجة فهم يحسبون تكوين الفرخ من البيضة أقل من تكوين الرعد وأن تكوين دودة القز أدل على الخالق من تكوين الآدمي مه أنه ليس كذلك ؛ فلذلك زعم أن ادعاء دلالة تكوين الآباء والأبناء ودلالة فناء الآباء على ثبوت الإله الواحد رب الأباء والأبناء ضربا من الجنون إذ هو تكوين لم يشهدوا دقائقه والمعروف المألوف ولادة الأجنة وموت الأموات .
وأكد كلامه بحرفي التأكيد لأن حالة موسى لا تؤذن بجنونه فكان وصفه بالمجنون معرضا للشك فلذلك أكد فرعون أنه مجنون يعني أنه علم من حال موسى ما عسى أن لا يعلمه السامعون .
وقصد بإطلاق وصف الرسول على موسى التهكم به بقرينة رميه بالجنون المحقق عنده .
وأضاف الرسول إلى المخاطبين ربئا بنفسه عن أن يكون مقصودا بالخطاب وأكد التهكم والربء بوصفه بالموصول ( الذي أرسل إليكم ) فإن مضمون الموصول وصلته هو مضمون ( رسولكم ) فكان ذكره كالتأكيد وتنصيصا على المقصود لزيادة تهييج السامعين كيلا يتأثروا أو يتأثر بعضهم بصدق موسى لأن فرعون يتهيأ لإعداد العدة لمقاومة موسى لعلمه بأن له قوما في مصر ربما يستنصر بهم .
( قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون [ 28 ] )