والانطلاق حقيقته مطاوع أطلقه إذا أرسله ولم يحبسه فهو حقيقة في الذهاب . واستعير هنا لفصاحة اللسان وبيانه في الكلام أي ينحبس لساني فلا يبين عند إرادة المحاجة والاستدلال وعطفه على ( يضيق صدري ) ينبئ بأنه أراد بضيق الصدر تكاثر خواطر الاستدلال في نفسه على الذين كذبوه ليقنعهم بصدقه حتى يحس كأن صدره قد امتلأ والشأن أن ذلك ينقص شيئا بعد شيء بمقدار ما يفصح عنه صاحبه من إبلاغه إلى السامعين فإذا كانت في لسانه حبسة وعي بقيت الخواطر متلجلجة في صدره . والمعنى : ويضيق صدري حين يكذبونني ولا ينطلق لساني .
A E وقرأ الجمهور ( يضيق ولا ينطلق ) مرفوعين عطفا على ( أخاف ) ولذلك حققه بحرف التأكيد لأنه أيقن بحصول ذلك لأنه جبلي عند تلقي التكذيب ولأن أمانة الرسالة والحرص على تنفيذ مراد الله يحدث ذلك في نفسه لا محالة وإذ قد كان انحباس لسانه يقينا عنده لأنه كان كذلك من أجل ذلك التيقن كان فعلا ( يضيق ولا ينطلق ) معطوفين على ما هو محقق عنده وهو حصول الخوف من التكذيب ولم يكونا معطوفين على ( يكذبون ) المخوف منه المتوقع على ان كونه محقق الحصول يجعله أحرى من المتوقع .
وقرأ يعقوب ( ويضيق ولا ينطلق ) بنصب الفعلين عطفا على ( يكذبون ) أي يتوقع أن يضيق صدره ولا ينطلق لسانه قيل كانت بموسى حبسة في لسانه إذا تكلم . وقد تقدم في سورة طه وسيجيء في سورة الزخرف . وليس القصد من هذا الكلام التنصل من الاضطلاع بهذا التكليف العظيم ولكن القصد تمهيد ما فرعه عليه من طلب تشريك أخيه هارون معه لأنه أقدر منه على الاستدلال والخطابة كما قال في الآية الأخرى ( وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ) . فقوله هنا ( فأرسل إلى هارون ) مجمل يبينه ما في الاية الأخرى فيعلم أن في الكلام هنا إيجازا . وأنه ليس المراد : فأرسل إلى هارون عوضا عني .
وإنما سأل الله الإرسال إلى هارون ولم يسأله أن يكلم هارون كما كلمه هو لأن هارون كان بعيدا عن مكان المناجاة . والمعنى : فأرسل ملكا بالوحي إلى هارون أن يكون معي .
وقوله ( ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون ) تعريض بسؤال النصر والتأييد وأن يكفيه شر عدوه حتى يؤدي ما عهد الله إليه على أكمل وجه . وهذا كقول النبي A يوم بدر ( اللهم إني أسألك نصرك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد في الأرض ) .
والذنب : الجرم ومخالفة الواجب في قوانينهم . وأطلق الذنب على المؤاخذة فإن الذي لهم عليه هو حق المطالبة بدم القتيل الذي وكزه موسى فقضى عليه وتوعده القبط إن ظفروا به ليقتلوه فخرج من مصر خائفا وكان ذلك سبب توجهه إلى بلاد مدين . وسماه ذنبا بحسب ما في شرع القبط فإنه لم يكن يومئذ شرع إلهي في أحكام قتل النفس . ويصح أن يكون سماه ذنبا لأن قتل أحد في غير قصاص ولا دفاع عن نفس المدافع يعتبر جرما في قوانين جماعات البشر من عهد قتل أحد ابني آدم أخاه وقد قال في سورة القصص ( قال هذا من عمل الشيطان أنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي ) . وأياما كان فهو جعله ذنبا لهم عليه .
وقوله ( فأخاف إن يقتلون ) ليس هلعا وفرقا من الموت فإنه لما أصبح في مقام الرسالة ما كان بالذي يبالي أن يموت في سبيل الله ؛ ولكنه خشي العائق من إتمام ما عهد إليه مما فيه له ثواب جزيل ودرجة عليا .
وحذفت ياء المتكلم من ( يقتلون ) للرعاية على الفاصلة كما تقدم في قوله تعالى ( وإياي فارهبون ) في سورة البقرة .
وذكر هارون تقدم عند قوله تعالى ( وبقية ما ترك آل موسى وآل هارون ) في سورة البقرة .
( قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون [ 15 ] فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين [ 16 ] أن أرسل معنا بني إسرائيل [ 17 ] ) .
( كلا ) حرف إبطال . وتقدم في قوله تعالى ( كلا سنكتب ما يقول ) في سورة مريم . والإبطال لقوله ( فأخاف أن يقتلون ) أي لا يقتلونك . وفي هذا الإبطال استجابة لما تضمنه التعريض بالدعاء حين قال ( ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون )