واعلم أنه قد عدل هنا عن ذكر ما ابتدئ به نداء موسى مما هو في سورة طه بقوله ( إني أنا ربك فاخلع نعليك ) إلى قوله ( لنريك من آياتنا الكبرى ) لأن المقام هنا يقتضي الاقتصار على ما هو شرح دعوة قوم فرعون وإعراضهم للاتعاظ بعاقبتهم . وأما مقام ما في سورة طه فلبيان كرامة موسى عند ربه ورسالته معا فكان مقام إطناب مع ما في ذلك من اختلاف الأسلوب في حكاية القصة الواحدة كما تقدم في المقدمة السابعة من مقدمات هذا التفسير .
والإتيان المأمور به هو ذهابه لتبليغ الرسالة إليهم . وهذا إيجاز يبينه قوله ( فأتيا فرعون فقولا إنا رسولا رب العالمين ) إلى آخره .
A E وجملة ( ألا يتقون ) مستأنفة استئنافا بيانيا لأنه لما أمره بالإتيان إليهم لدعوتهم ووصفهم بالظالمين كان الكلام مثيرا لسؤال في نفس موسى عن مدى ظلمهم فجيء بما يدل على توغلهم في الظلم ودوامهم عليه تقوية للباعث لموسى على بلوغ الغاية في الدعوة وتهيئة لتلقيه تكذيبهم بدون مفاجئة فيكون ( ألا ) من قوله ( ألا يتقون ) مركبا من حرفين همزة الاستفهام و ( لا ) النافية . والاستفهام لإنكار انتفاء تقواهم وتعجيب موسى من ذلك فإن موسى كان مطلعا على أحوالهم إذ كان قد نشأ فيهم وقد علم مظالمهم وأعظمها الإشراك وقتل أنبياء بني إسرائيل... .
ويجوز أن يكون ( ألا ) كلمة واحدة هي أداة العرض والتحضيض فتكون جملة ( ألا يتقون ) بيانا لجملة ( ائت ) والمعنى : قل لهم : ألا تتقون . فحكى مقالته بمعناها لا بلفظها . وذلك واسع في حكاية القول كما في قوله تعالى ( ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم ) فإن جملة ( ان اعبدوا الله ) مفسرة لجملة ( أمرتني ) . وإنما أمره الله أن يعبدوا الله رب موسى وربهم فحكى ما أمره الله به بالمعنى . وهذا العرض نظير قوله في سورة النازعات ( فقل هل لك إلى أن تزكى ) .
والاتقاء : الخوف والحذر وحذف متعلق فعل ( يتقون ) لظهور أن المراد : ألا يتقون عواقب ظلمهم . وتقدم في قوله تعالى ( الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون ) في سورة الأنفال .
ويعلم موسى من إجراء وصف الظلم وعدم التقوى على قوم فرعون في معرض أمره بالذهاب إليهم أن من أول ما يبدأ به دعوتهم أن يدعوهم إلى ترك الظلم وإلى التقوى .
وذكر موسى تقدم عند قوله تعالى ( وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ) في البقرة . وتقدمت ترجمة فرعون عند قوله تعالى ( إلى فرعون وملائه ) في الأعراف .
( قال رب إني أخاف أن يكذبون [ 12 ] ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون [ 13 ] ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون [ 14 ] ) .
افتتاح مراجعته بنداء الله بوصف الرب مضافا إليه تحنين واستسلام . وإنما خاف أن يكذبوه لعلمه بأن مثل هذه الرسالة لا يتلقاها المرسل إليهم إلا بالتكذيب وجعل نفسه خائفا من التكذيب لأنه لما خلعت عليه الرسالة عن الله وقر في صدره الحرص على نجاح رسالته فكان تكذيبه فيها مخوفا منه .
( ويضيق صدري ) قرأه الجمهور بالرفع فهو عطف على ( أخاف ) أو تكون الواو للحال فتكون حالا مقدرة أي والحال يضيق ساعتئذ صدري من عدم اهتدائهم .
والضيق : ضد السعة وهو هنا مستعار للغضب والكمد لأن من يعتريه ذلك يحصل له انفعال وينشأ عنه انضغاط الأعصاب في الصدر والقلب من تأثير الإدراك الخاص على جمع الأعصاب الكائن بالدماغ الذي هو المدرك فيحس بشبه امتلاء في الصدر . وقد تقدم عند قوله تعالى ( يجعل صدره ضيقا حرجا ) وقوله ( وضائق به صدرك ) في سورة هود . والمعنى : أنه يأسف ويكمد لتكذيبهم إياه ويجيش في نفسه روم إقناعهم بصدقه وتلك الخواطر إذا خطرت في العقل نشأ منها إعداد البراهين وفي ذلك الإعداد تكلف وتعب للفكر فإذا أبانها أحس بارتياح وبشبه السعة في الصدر فسمى ذلك شرحا للصدر ولذلك سأله موسى في الآية الأخرى ( قال رب اشرح لي صدري )