وقسم من تطلب الزيادة من صلاح الحال في هذه الحياة وهو قوله ( والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا ) إلى قوله ( للمتقين إماما ) .
وظاهر قوله ( يمشون على الأرض هونا ) أنه مدح لمشية بالأرجل وهو الذي حمل عليه جمهور المفسرين .
وجوز الزجاج أن يكون قوله ( يمشون ) عبارة عن تصرفاتهم في معاشرة الناس فعبر عن ذلك بالانتقال في الأرض وتبعه ابن عطية وهذا الذي ذكره مأخوذ مما روي عن زيد بن أسلم كما سيأتي . فعلى الوجه الأول يكون تقييد المشي بأنه على الأرض ليكون في وصفه بالهون ما يقتضي أنهم يمشون كذلك اختيارا وليس ذلك عند المشي في الصعدات أو على الجنادل .
والهون : اللين والرفق . ووقع هنا صفة لمصدر المشي محذوف تقديره ( مشيا ) فهو منصوب على النيابة عن المفعول المطلق .
والمشي الهون : هو الذي ليس فيه ضرب بالأقدام وخفق النعال فهو مخالف لمشي المتجبرين المعجبين بنفوسهم وقوتهم . وهذا الهون ناشئ عن التواضع لله تعالى والتخلق بآداب النفس العالية وزوال بطر أهل الجاهلية فكانت هذه المشية من خلال الذين آمنوا على الضد من مشي أهل الجاهلية . وعن عمر بن الخطاب أنه رأى غلاما يتبختر في مشيته فقال له ( إن البخترة مشية تكره إلا في سبيل الله ) . وقد مدح الله تعالى أقواما بقوله سبحانه ( وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا ) فاقصد من مشيتك وحكى الله تعالى عن لقمان لابنه ( ولا تمش في الأرض مرحا ) .
والتخلق بهذا الخلق مظهر من مظاهر التخلق بالرحمة المناسب لعباد الرحمان لأن الرحمة ضد الشدة فالهون يناسب ماهيتها وفيه سلامة من صدم المارين .
وعن زيد بن أسلم قال : كنت أسأل عن تفسير قوله تعالى : ( الذين يمشون على الأرض هونا ) فما وجدت في ذلك شفاء فرأيت في المنام من جاءني فقال لي : ( هم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض ) . فهذا رأي لزيد بن أسلم ألهمه يجعل معنى ( يمشون على الأرض ) أنه استعارة للعمل في الأرض كقوله تعالى ( وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ) وأن الهون مستعار لفعل الخير لأنه هون على الناس كما يسمى بالمعروف .
وقرن وصفهم بالتواضع في سمتهم وهو المشي على الأرض هونا بوصف آخر يناسب التواضع وكراهية التطاول وهو متاركة الذين يجهلون عليهم في الخطاب بالأذى والشتم وهؤلاء الجاهلون يومئذ هم المشركون إذ كانوا يتعرضون للمسلمين بالأذى والشتم فعلمهم الله متاركة السفهاء فالجهل هنا ضد الحلم ولذلك أشهر إطلاقاته عند العرب قبل الإسلام وذلك معلوم في كثير من الشعر والنثر .
وانتصب ( سلاما ) على المفعولية المطلقة . وذكرهم بصفة الجاهلين دون غيرها مما هو أشد مذمة مثل الكافرين لأن هذا الوصف يشعر بأن الخطاب الصادر منهم خطاب الجهالة والجفوة .
و ( السلام ) يجوز أن يكون مصدرا بمعنى السلامة أي لا خير بيننا ولا شر فنحن مسلمون منكم . ويجوز أن يكون مرادا به لفظ التحية فيكون مستعملا في لازمه وهو المتاركة لأن أصل استعمال لفظ السلام في التحية أنه يؤذن بالتأمين أي عدم الإهاجة والتأمين : أول ما يلقى به المرء من يريد إكرامه فتكون الآية في معنى قوله ( وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ) .
قال ابن عطية : وأريت في بعض التواريخ أن إبراهيم بن المهدي وكان من المائلين على علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال يوم بحضرة المأمون وعنده جماعة : كنت أرى علي بن أبي طالب في النوم فكنت أقول له : من أنت ؟ فكان يقول : علي بن أبي طالب فكنت أجيء معه إلى قنطرة فيذهب فيتقدمني في عبورها أقول : إنما تدعي هذا الأمر بامرأة ونحن أحق به منك فما رأيت له في الجواب بلاغة كما يذكر عنه قال المأمون : وبماذا جاوبك ؟ قال : فكان يقول لي : سلاما . قال الراوي : فكأن إبراهيم بن المهدي لا يحفظ الآية أو ذهبت عنه في ذلك الوقت فنبه المأمون على الآية من حضره وقال : هو والله يا عم علي بن أبي طالب وقد جاوبك بأبلغ جواب فخزي إبراهيم واستحيا . ولأجل المناسبة بين الصيغتين عطفت هذه على الصلة الأولى . ولم يكرر اسم الموصول كما كرر في الصفات بعدها .
( والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما [ 64 ] ) عطف صفة أخرى على صفتيهم السابقتين على حد قول الشاعر :