وهذا موضع سجدة من سجود القرآن بالاتفاق . ووجه السجود هنا إظهار مخالفة المشركين إذ أبوا السجود للرحمن فلما حكي إباؤهم من السجود للرحمان في معرض التعجيب من شأنهم عزز ذلك بالعمل بخلافهم فسجد النبي A هنا مخالفا لهم مخالفة بالفعل مبالغة في مخالفته لهم بعد أن أبطل كفرهم بقوله ( وتوكل على الحي الذي لا يموت ) الآيات الثلاث . وسن الرسول عليه السلام السجود في هذا الموضع .
A E ( تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سرجا وقمرا منيرا [ 61 ] ) .
استئناف ابتدائي جعل تمهيدا لقوله ( وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا ) الآيات التي هي محصول الدعامة الثالثة من الدعائم الثلاث التي أقيم عليها بناء هذه السورة وافتتحت كل دعامة منها ب ( تبارك الذي... ) الخ كما تقدم في صدر السورة . وافتتح ذلك بإنشاء الثناء على الله بالبركة والخير لما جعله للخلق من المنافع . وتقدم ( تبارك ) أول السورة وفي قوله ( تبارك الله رب العالمين ) في الأعراف .
والبروج : منازل مرور الشمس فيما يرى الراصدون . وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى ( ولقد جعلنا في السماء بروجا ) في أول سورة الحج .
والامتنان بها لأن الناس يوقتون بها أزمانهم .
وقرأ الجمهور ( سراجا ) بصيغة المفرد . والسراج : الشمس كقوله ( وجعل الشمس سراجا ) في سورة نوح . ومناسبة ذلك لما يرد بعده من قوله ( وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة... . ) .
وقرأ حمزة والكسائي ( سرجا ) بضم السين والراء جمع سراج فيشمل مع الشمس النجوم فيكون امتنانا بحسن منظرها للناس كقوله ( ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح ) . والامتنان بمحاسن المخلوقات وارد في القرآن قال تعالى ( ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ) .
والكلام جار على التشبيه البليغ لأن حقيقة السراج : المصباح الزاهر الضياء . والمقصود : أنه جعل الشمس مزيلة للظلمة كالسراج أو خلق النجوم كالسراج في التلألؤ وحسن المنظر .
ودلالة خلق البروج والشمس والقمر على عظيم القدرة دلالة بينة للعاقل وكذلك دلالته على دقيق الصنع ونظامه بحيث لا يختل ولا يختلف حتى تسنى للناس رصد أحوالها وإناطة حسابهم بها .
( وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا [ 62 ] ) .
الاستدلال هذا بما في الليل والنهار من اختلاف الحال بين ظلمة ونور وبرد وحر مما يكون بعضه أليق ببعض الناس من بعض ببعض آخر وهذا مخالف للاستدلال الذي في قوله ( وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا ) فهذه دلالة أخرى والحكم في المخلوقات كثيرة .
والقصر هنا قصر حقيقي وليس إضافيا فلذلك لا يراد به الرد على المشركين بخلاف صيغ القصر السابقة من قوله ( وهو الذي جعل لكم الليل لباسا ) إلى قوله ( وكان ربك قديرا ) .
والخلفة بكسر الخاء وسكون اللام : اسم لما يخلف غيره في بعض ما يصلح له . صيغ هذا الاسم على زنة فعلة لأنه في الأصل ذو خلفة أي صاحب حالة خلف فيها غيره ثم شاع استعماله فصار اسما قال زهير : .
بها العين والآرام يمشين خلفة ... وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم أي يمشي سرب ويخلفه سرب آخر ثم يتعاقب هكذا . فالمعنى : جعل الليل خلفة والنهار خلفة : أي كل واحد منهما خلفة عن الآخر أي فيما يعمل فيها من التدبر في أدلة العقيدة والتعبد والتذكر .
واللام في ( لمن أراد أن يذكر ) لام التعليل وهي متعلقة ب ( جعل ) فأفاد ذلك أن هذا الجعل نافع من أراد أن يذكر أو أراد شكورا .
والتذكر : تفعل من الذكر أي تكلف الذكر . والذكر جاء في القرآن بمعنى التأمل في أدلة الدين وجاء بمعنى : تذكر فائت أو منسي ويجمع المعنيين استظهار ما احتجب عن الفكر .
والشكور : بضم الشين مصدر مرادف الشكر والشكر : عرفان إحسان المحسن . والمراد به هنا العبادة لأنها شكر لله تعالى .
A E