لما كان أعظم ما دعا الله إليه توحيده وكان أصل ضلالة المشركين إشراكهم أعقب وصف الله بالعلو العظيم والقدرة الواسعة ببيان أن الحساب الواقع بعد البعث ينال الذين دعوا مع الله آلهة دعوى لا عذر لهم فيها لأنها عرية عن البرهان أي الدليل لأنهم لم يثبتوا لله الملك الكامل إذ أشركوا معه آلهة ولم يثبتوا ما يقتضي له عظيم التصرف إذ أشركوا معه تصرف آلهة . فقوله ( لا برهان له به ) حال من ( من يدع مع الله إلها آخر ) وهي حال لازمة لأن دعوى الإله مع الله لا تكون إلا عرية عن البرهان . ونظير هذا الحال قوله تعالى ( ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ) .
والقصر في قوله ( فإنما حسابه عند ربه ) قصر حقيقي . وفيه إثبات الحساب وأنه لله وحده في تخطئتهم وتهديدهم .
ويجوز أن يكون القصر إضافيا تطمينا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الله لا يؤاخذه باستمرارهم على الكفر كقوله ( إن عليك إلا البلاغ ) وقوله ( لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ) وهذا أسعد بقوله ( وقل رب اغفر وارحم ) .
ويدل على ذلك تذييله بجملة ( إنه لا يفلح الكافرون ) . وفيه ضرب من رد العجز على الصدر إذ افتتحت السورة ب ( قد أفلح المؤمنون ) وخمت ب ( أنه لا يفلح الكافرون ) وهو نفي الفلاح عن الكافرين ضد المؤمنين .
( وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الرحمين [ 118 ] ) عطف على جملة ( ومن يدع مع الله إلها آخر ) الخ باعتبار قوله ( فإنما حسابه عند ربه ) . فإن المقصود من الجملة خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بأن يدعو ربه بالمغفرة والرحمة . وفي حذف متعلق ( اغفر وارحم ) تفويض الأمر إلى الله في تعيين المغفور لهم والمرحومين والمراد من كانوا من المؤمنين . ويجوز أن يكون المعنى اغفر لي وارحمني بقرينة المقام .
وأمره بأن يدعو بذلك يتضمن وعدا بالإجابة .
وهذا الكلام مؤذن بانتهاء السورة فهو من براعة المقطع .
بسم الله الرحمن الرحيم .
سورة النور .
سميت هذه السورة ( سورة النور ) من عهد النبي صلى الله عليه وسلم . روي عن مجاهد قال رسول الله : ( علموا نساءكم سورة النور ) ولم أقف على إسناده . وعن حارثة بن مضر : ( كتب إلينا عمر بن الخطاب أن تعلموا سورة النساء والأحزاب والنور ) . وهذه تسميتها في المصاحف وكتب التفسير والسنة ولا يعرف لها اسم آخر . ووجه التسمية أن فيها آية ( الله نور السماوات والأرض ) .
وهي مدنية باتفاق أهل العلم ولا يعرف مخالف في ذلك . وقد وقع في نسخ تفسير القرطبي عند قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لسيتأذنكم الذين ملكت أيمانكم ) الآية في المسألة الرابعة كلمة ( وهي مكية ) يعني الآية . فنسب الخفاجي في حاشيته على تفسير البيضاوي وتبعه الآلوسي إلى القرطبي أن تلك الآية مكية مع أن سبب نزولها الذي ذكره القرطبي صريح في أنها نزلت بالمدينة كيف وقد قال القرطبي في أول هذه السورة ( مدنية بالإجماع ) . ولعل تحريفا طرأ على النسخ من تفسير القرطبي وأن صواب الكلمة ( وهي محكمة أي غير منسوخ حكمها فقد وقعت هذه العبارة في تفسير ابن عطية قال ( وهي محكمة قال ابن عباس : تركها الناس ) . وسيأتي أن سبب نزول قوله تعالى ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ) الآية قضية مرثد ابن أبي مرثد مع عناق . ومرثد بن أبي مرثد استشهد في صفر سنة ثلاث للهجرة في غزوة الرجيع فيكون أوائل هذه السيرة نزل قبل سنة ثلاث والأقرب أن يكون في أواخر السنة الأولى أو أوائل السنة الثانية أيام كان المسلمون يتلاحقون للهجرة وكان المشركون جعلوهم كالأسرى .
ومن آياتها آيات قصة الإفك وهي نازلة عقب غزوة بني المصطلق من خزاعة . والأصح أن غزوة بني المصطلق كانت سنة أربع فإنها قبل غزوة الخندق .
ومن آياتها ( والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم ) الآية نزلت في شعبان سنة تسع بعد غزوة تبوك فتكون تلك الآيات مما نزل بعد نزول أوائل هذه السورة وهذا يقتضي أن هذه السورة نزلت منجمة متفرقة في مدة طويلة وألحق بعض آياتها ببعض .
وقد عدت هذه السورة المائة في ترتيب نزول سور القرآن عند جابر ابن زيد عن ابن عباس . قال : نزلت بعد سورة ( إذا جاء نصر الله ) وقبل سورة الحج أي عند القائلين بان سورة الحج مدنية .
وآيها اثنتان وستون في عد المدينة ومكة وأربع وستون في عد البقية