وأدخلت أداة الحصر بعد ( حسب ) فجعلت الفعل غير ناصب إلا مفعولا واحدا وهو المصدر المستخلص من ( أنما خلقناكم ) . وتقدير : أفحسبتم خلقنا إياكم لأجل العبث وذلك أن أفعال الظن والعلم نصبت مفعولين غالبا لأن أصل مفعوليها مبتدأ وخبر أي اسم ذات واسم صفة فاحتياجها إلى المفعول الثاني من باب احتياج المبتدإ إلى الخبر لئلا تنعدم الفائدة في المبتدإ مجردا عن خبره وبذلك فارقت بقية الأفعال المتعدية باحتياجها إلى منصوبين لأن معناها لا يتعلق بالذوات فقولك : ظننت زيدا قائما إنما هو في الحقيقة : ظننت قيام زيد فمفعولها هو المصدر وحقه أن يكون خبرا مضافا إلى ضمير مبتدئه كما قال الرضي : يعني أن العرب استعملوها بمفعولين كراهية لجعل المصدر مفعولا به كأنهم تجنبوا اللبس بين المفعول به والمفعول المطلق وهذا كما استعملوا أفعال الكون مسندة إلى اسم الذوات ثم أتوا بعد اسم الذات باسم وصفها ولم يأتوا باسم الوصف من أول وهلة ولذلك إذا أوقعوا بعدها حرف المصدر اكتفوا به عن المفعولين ولم يسمع عنهم أنهم نصبوا بها مصدرا صريحا فإذا وقع مفعول أفعال الظن اسم معنى وهو المصدر الصريح أو المنسبك وحذف الفائدة فاجتزأت بالمصدر كقوله تعالى ( إني ظننت أني ملاق حسابيه ) .
وحيث كانت ( أنما ) مركبة من ( أن ) المفتوحة الهمزة ومن ( ما ) الكافة فوقوعها بعد فعل الحساب بمنزلة وقوع المصدر ولولا ( أن ) لكان الكلام : أحسبتمونا خالقينكم عبثا .
وانتصب ( عبثا ) على الحال من ضمير الجلالة مؤولا باسم الفاعل . والعبث : العمل الذي لا فائدة فيه . وكلما تضاءلت الفائدة كان لها حكم العدم فلو لم يكن خلق البشر في هذه الحياة مرتبا عليه مجازاة الفاعلين على أفعالهم لكان خالقه قد أتى في فعله بشيء عديم الفائدة فكان فيه حظ من العبث .
وبيان كونه عبثا أنه خلق الخلق فأحسن المحسن وأساء المسيء ولم يلق كل جزاءه لكان ذلك إضاعة لحق المحسن وإغضاء عما حصل من فساد المسيء فكان ذلك تسليطا للعبث . وليس معنى الحال أن يكون عاملها غير مفارق لمدلولها بل يكفي حصول معناها في بعض أكوان عاملها .
وأما قوله ( وأنكم إلينا لا ترجعون ) فهم قد حسبوا ذلك حقيقة بلا تنزيل وهذا من تمام الإنكار .
وقرأ الجمهور ( ترجعون ) بضم التاء وفتح الجيم أي أن الله يرجعهم قهرا . وقرأه حمزة والكسائي وخلف بفتح التاء وكسر الجيم أي يرجعون طوعا أو كرها .
( فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم [ 116 ] ) تفرع على ما تقدم بيانه من دلائل الوحدانية والقدرة والحكمة ظهور أن الله هو الملك الذي ليس في اتصافه بالملك شائبة من معنى الملك فملكه الملك الكامل في حقيقته الشامل في نفاذه .
والتعريف في ( الملك ) للجنس .
والحق : ما قابل الباطل ومفهوم الصفة يقتضي أن ملك غيره باطل أي فيه شائبة الباطل لا من وجهة الجور والظلم لأنه قد يوجد ملك لا جور فيه ولا ظلم كملك الأنبياء والخلفاء الراشدين وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخلفاء والأمراء بل من جهة أنه ملك غير مستكمل حقيقة المالكية فإن كل من ينسب إليه الملك عدا الله تعالى هو مالك من جهة ومملوك من جهة لما فيه من نقص واحتياج ؛ فهو مملوك لما يتطلبه من تسديد نقصه بقدر الحاجة ومن استعانة بالغير لجبر احتياجه فذلك ملك باطل لأنه ادعاء ملك غير تام .
وجملة ( تعالى ) يجوز ان تكون خبرا قصد منه التذكير والاستنتاج مما تقدم من الدلائل المبينة لمعنى تعاليه وأن تكون إنشاء ثناء عليه بالعلو .
والتعالي : مبالغة في العلو . وأتبع ذلك بما هو دليل عليه وهو انفراده بالإلهية وذلك وصف ذاتي وبأنه مالك أعظم المخلوقات أعني العرش وذلك دليل عظمة القدرة .
و ( الكريم ) بالجر صفة العرش . وكرم الجنس أن يكون مستوفيا فصائل جنسه كما في قوله تعالى ( إني ألقي إلي كتاب كريم ) في سورة النمل .
( ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهن له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون [ 117 ] ) A E