ولم يعرج المفسرون على تبيين المقصد من سؤالهم وإجابتهم عنه وتعقيبه بما يقرره في الظاهر . والذي لاح لي في ذلك أن إيقافهم على ضلال اعتقادهم الماضي جيء به في قالب السؤال عن مدة مكثهم في الأرض كناية عن ثبوت خروجهم من الأرض أحياء وهو ما كانوا ينكرونه وكناية عن خطإ استدلالهم على إبطال البعث باستحالة رجوع الحياة إلى عظام ورفات . وهي حالة لا تقتضي مدة قرن واحد فكيف وقد أعيدت إليهم مما قدروه من الحياة بعد أن بقوا قرونا كثيرة فذلك أدل وأظهر في سعة القدرة الإلهية وأدخل في إبطال شبهتهم إذ قد تبين بطلانهم فيما هو أكثر علة استحالة عود الحياة إليهم .
وقد دل على هذا قوله في آخر الآية ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ) وقد ألجأهم الله إلى إظهار اعتقادهم قصر المدة التي بقوها زيادة في تشويه خطإهم فإنهم لما أحسوا أنفسهم أنهم صاروا أحياء كحياتهم الأولى وعاد لهم تفكيرهم القديم الذي ماتوا عليه وكانوا يتوهمون أنهم إذا فنيت أجسادهم لا تعود إليهم الحياة أوهمهم كمال أجسادهم أنهم ما مكثوا في الأرض إلا زمنا يسيرا لا يتغير في مثله الهيكل الجثماني فبنوا على أصل شبهتهم الخاطئة خطأ آخر .
وأما قولهم ( فاسأل العادين ) فهو اعتراف بأنهم لم يضبطوا مدة مكثهم فأحالوا السائل على من يضبط ذلك من الذين يظنونهم لم يزالوا أحياء لأنهم حسبوا أنهم بعثوا والدنيا باقية وحسبوا أن السؤال على ظاهره فتبرأوا من عهدة عدم ضبط الجواب .
وأما رد الله عليهم بقوله ( إن لبثتم إلا قليلا ) فهو يؤذن بكلام محذوف على طريقة دلالة الاقتضاء لأنهم قد لبثوا أكثر من يوم أو بعض يوم بكثير فكيف يجعل قليلا فتعين أن يقول ( إن لبثتم إلا قليلا ) لا يستقيم أن يكون جوابا لكلامهم إلا بتقدير : قال بل لبثتم قرونا كما في قوله في الذي مر على قرية ( فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام ) . ولذلك تعين أن يكون التقدير : قال بل لبثتم قرونا وأن لبثتم إلا قليلا فيما عند الله ( فإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ) .
وقرينة ذلك ما تفيده ( لو ) من الامتناع في قوله ( لو أنكم كنتم تعلمون ) أي لو كنتم تعلمون لعلمتم أنكم ما لبثتم إلا قليلا فيقتضي الامتناع أنهم ما علموا أنهم لبثوا قليلا مع أن صريح جوابهم يقتضي أنهم علموا لبثا قليلا فالجمع بين تعارض مقتضى جوابهم ومقتضى الرد عليهم إنما يكون باختلاف النسبة في قلة مدة المكث إذا نسبت إلى ما يراعى فيها فهي إذا نسبت إلى شبهتهم في إحالة البعث كانت طويلة وقد وقع البعث بعدها فهذا خطأ منهم وهي إذا نسبت إلى ما يترقبهم من مدة العذاب كانت مدة قليلة وهذا إرهاب لهم .
( أفحسبتم أنما خلقنكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون [ 115 ] ) هذا من تمام القول المحكي فيه ( قال كم لبثتم في الأرض ) مفرع على ما قبله . فرع الاستفهام عن حسبانهم أن الخلق لأجل العبث على إظهار بطلان ما زعموه من إنكار البعث . والاستفهام تقرير وتوبيخ لأن لازم إنكارهم البعث أن يكون خلق الناس مشتملا على عبث فنزلوا منزلة من حسب ذلك فقرروا ووبخوا أخذا لهم بلازم اعتقادهم .
A E