و ( حتى ) ابتدائية ومعنى ( حتى ) الابتدائية معنى فاء السببية فهي استعارة تبعية . شبه التسبب القوي بالغاية فاستعملت فيه ( حتى ) . والمعنى : أنكم لهوتم عن التأمل فيما جاء به القرآن من الذكر لأنهم سخروا منهم لأجل أنهم مسلمون فقد سخروا من الدين الذي كان اتباعهم إياه سبب السخرية بهم فكيف يرجى من هؤلاء التذكر بذلك الذكر وهو من دواعي السخرية بأهله . وتقدم الكلام على فعل ( سخر ) عند قوله ( فحاق بالذين سخروا منهم ) في سورة الأنعام وقوله ( يسخرون منهم ) في سورة براءة .
فإسناد الإنساء إلى الفريق مجاز عقلي لأنهم سببهن أو هو مجاز بالحذف بتقدير : حتى أنساكم السخري بهم ذكري والقرينة على الأول معنوية وعلى الثاني لفظية .
وقوله ( أنهم هم الفائزون ) قرأه الجمهور بفتح همزة ( أن ) على معنى المصدرية والتأكيد أي جزيتهم بأنهم . وقرأه حمزة والكسائي بكسر همزة ( إن ) على التأكيد فقط فتكون استئنافا بيانيا للجزاء .
وضمير الفصل للاختصاص أي هم الفائزون لا أنتم .
وقوله ( بما صبروا ) إدماج للتنويه بالصبر والتنبيه على أن سخريتهم بهم كانت سببا في صبرهم الذي أكسبهم الجزاء . وفي ذلك زيادة تلهيف للمخاطبين بأن كانوا هم السبب في ضر أنفسهم ونفع من كانوا يعدونهم أعداءهم .
( قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين [ 112 ] قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فسئل العادين [ 113 ] قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون [ 114 ] ) قرأ الجمهور ( قال كم لبثتم ) بصيغة الماضي فيتعين أن هذا القول يقع عند النفخ في الصور وحياة الأموات من الأرض فالأظهر أن يكون هو جواب ( إذا ) في قوله فيما سبق ( فإذا نفخ في الصور ) . والتقدير : قال الله لهم إذا نفخ في الصور : كم لبثتم في الأرض عدد سنين وما بينهما اعتراضات نشأت بالتفريع والعطف والحال والمقاولات العارضة في خلال ذلك كما علمته مما تقدم في تفسير تلك الآي . وليس من المناسب أن يكون هذا القول حاصلا بعد دخول الكافرين النار والمفسرون الذين حملوه على ذلك تكلفوا ما لا يناسب انتظام المعاني .
وقرأه ابن كثير وحمزة والكسائي ( قل ) بصيغة الأمر . والخطاب للملك الموكل بإحياء الأموات .
وجملة ( فاسأل العادين ) تفريع على جملة ( لبثنا يوما أو بعض يوم ) لما تضمنته من ترددهم في تقدير مدة لبثهم في الأرض . وأرى في تفسير ذلك أنهم جاءوا في كلامهم بما كان معتادهم في حياتهم في الدنيا من عدم ضبط حساب السنين إذ كان علم موافقة السنين القمرية للسنين الشمسية تقوم به بنو كنانة الذين بيدهم النسيء ويلقبون بالنسأة قال الكناني : .
ونحن الناسئون على معد ... شهور الحل نجعلها حراما والمفسرون جعلوا المراد من العادين الملائكة أو الناس الذين يتذكرون حساب مدة المكث . ولكن القرطبي قال : أي سل الحساب الذين يعرفون ذلك فإنا نسيناه .
وقوله ( قال إن لبثتم إلا قليلا ) قرأه الجمهور كما قرأوا الذي قبله فهو حكاية للمحاورة فلذلك لم يعطف فعل ( قال إن لبثتم إلا قليلا ) وهي طريقة حكاية المحاورات كما في قوله تعالى ( قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ) في سورة البقرة . وقرأه ابن كثير وحمزة والكسائي بصيغة الأمر كالذي قبله .
والاستفهام عن عدد سنوات المكث في الأرض مستعمل في التنبيه ليظهر لهم خطؤهم إذ كانوا يزعمون أنهم إذا دفنوا في الأرض لا يخرجون منها .
وانتصب ( عدد سنين ) على التمييز ل ( كم ) الاستفهامية والتمييز إنما هو ( سنين ) . وإضافة لفظ ( عدد ) إليه تأكيد لمضمون ( كم ) لأن ( كم ) اسم استفهام عن العدد فذكر لفظ ( عدد ) معها تأكيد لبعض مدلولها .
وجوابهم يقتضي أنهم كانوا في الأرض وأنهم لم يتذكروا طول مدة مكثهم على تفاوت فيها . والظاهر أن المراد بقولهم ( يوما أو بعض يوم ) أنهم قدروا مدة مكثهم في باطن الأرض بنحو يوم من الأيام المعهودة لديهم في الدنيا كما دل عليه قوله تعالى في سورة الروم ( ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة ) .
A E