والتخلق بهذه الآية هو أن المؤمن الكامل ينبغي له أن يفوض أمر المعتدين عليه إلى الله فهو يتولى الانتصار لمن توكل عليه وأنه إن قابل السيئة بالحسنة كان انتصار الله أشفى لصدره وأرسخ في نصره وماذا تبلغ قدرة المخلوق تجاه قدرة الخالق وهو الذي هزم الأحزاب بلا جيوش ولا فيالق .
وهكذا كان خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان لا ينتقم لنفسه وكان يدعو ربه . وذكر في المدارك في ترجمة عبد الله بن غانم : أن رجلا يقال له ابن زرعة كان له جاه ورئاسة وكان ابن غانم حكم عليه بوجه حق ترتب عليه فلقي ابن غانم في موضع خال فشتمه فأعرض عنه ابن غانم فلما كان بعد ذلك لقيه بالطريق فسلم ابن زرعة على ابن غانم فرد عليه ابن غانم ورحب به ومضى معه إلى منزله وعمل له طعاما فلما أراد مفارقته قال لابن غانم : يا أبا عبد الرحمان اغفر لي واجعلني في حل مما كان من خطابي فقال له ابن غانم : أما هذا فلست أفعله حتى أوقفك بين يدي الله تعالى وأما أن ينالك مني في الدنيا مكروه أو عقوبة فلا .
( وقل رب أعوذ بك من همزت الشياطين [ 97 ] وأعوذ بك رب أن يحضرون [ 98 ] ) الظاهر أن يكون المعطوف مواليا للمعطوف هو عليه فيكون قوله ( وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين ) متصلا بقوله ( ادفع بالتي هي أحسن السيئة ) فلما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يفوض جزاءهم إلى ربه أمره بالتعوذ من حيلولة الشياطين داعية الغضب والانتقام في نفس النبي صلى الله عليه وسلم فيكون ( الشياطين ) مستعملا في حقيقته . والمراد من همزات الشياطين : تصرفاتهم بتحريك القوى التي في نفس الإنسان ( أي في غير أمور التبليغ ) مثل تحريك القوة الغضبية كما تأول الغزالي في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث ( ولكن الله أعانني عليه فأسلم ) . ويكون أمر الله تعالى نبيه E بالتعوذ من همزات الشياطين مقتضيا تكفل الله تعالى بالاستجابة كما في قوله تعالى ( ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ) أو أن يكون أمره بالتعوذ من همزات الشياطين مرادا به الاستمرار على السلامة منهم . قال في الشفاء : الأمة مجتمعة ( أي مجمعة ) على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان لا في جسمه بأنواع الأذى ولا على خاطره بالوساوس .
ويجوز أن تكون جملة ( وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين ) عطفا على جملة ( قل رب إما تريني ما يوعدون ) بأن أمره الله بأن يلجأ إليه بطلب الوقاية من المشركين وأذاهم فيكون المراد من الشياطين المشركين فإنهم شياطين الإنس كما قال تعالى ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن ) ويكون هذا في معنى قوله ( قل أعوذ برب الناس ) إلى قوله ( الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة الناس ) فيكون المراد : أعوذ بك من همزات القوم الظالمين أو من همزات الشياطين منهم .
والهمز حقيقته : الضغط باليد والطعن بالإصبع ونحوه ويستعمل مجازا بمعنى الأذى بالقول أو بالإشارة ومنه قوله تعالى ( هماز مشاء بنميم ) وقوله ( ويل لكل همزة لمزة ) .
ومحمله هنا عندي على المعنى المجازي على كلا الوجهين في المراد من الشياطين . وهمز شياطين الجن ظاهر وأما همز شياطين الإنس فقد كان من أذى المشركين النبي صلى الله عليه وسلم لمزه والتغامز عليه والكيد له .
ومعنى التعوذ من همزهم : التعوذ من آثار ذلك فإن من ذلك أن يغمزوا بعض سفهائهم إغراء لهم بأذاه كما وقع في قصة إغرائهم من أتى بسلا جزور فألقاه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في صلاته حول الكعبة . وهذا الوجه في تفسير الشياطين هو الأليق بالغاية في قوله ( حتى إذا جاء أحدهم الموت ) كما سيأتي .
وأما قوله ( وأعوذ بك رب أن يحضرون ) فهو تعوذ من قربهم لأنهم إذا اقتربوا منه لحقه أذاهم .
( حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب أرجعون [ 99 ] لعلى أعمل صلحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون [ 100 ] ) A E