( قل رب إما تريني ما يوعدون [ 93 ] رب فلا تجعلني في القوم الظالمين [ 94 ] وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون [ 95 ] ) آذنت الآيات السابقة بأقصى ضلال المشركين وانتفاء عذرهم فيما دانوا به الله وبغضب الله عليهم لذلك وأنهم سواء في ذلك مع الأمم التي عجل الله لها العذاب في الدنيا وادخر لها عذابا آخر في الآخرة فكان ذلك نذارة لهم بمثله وتهديدا بما سيقولونه وكان مثارا لخشية النبي صلى الله عليه وسلم أن يحل العذاب بقومه في حياته والخوف من هوله فلقن الله نبيه أن يسأل النجاة من ذلك العذاب . وفي هذا التلقين تعريض بأن الله منجيهم من العذاب بحكمته وإيماء إلى أن الله يري نبيه حلول العذاب بمكذبيه كما هو شأن تلقين الدعاء كما في قوله ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) الآية .
فهذه الجملة استئناف بياني جوابا عما يختلج في نفس رسول الله E . وقد تحقق ذلك فيما حل بالمشركين يوم بدر ويوم حنين فالوعيد المذكور هنا وعيد بعقاب في الدنيا كما يقتضيه قوله ( فلا تجعلني في القوم الظالمين ) .
وذكر في هذا الدعاء لفظ ( رب ) مكررا تمهيدا للإجابة لأن وصف الربوبية يقتضي الرأفة بالمربوب .
وأدخل بعد حرف الشرط ( ما ) الزائدة للتوكيد فاقترن فعل الشرط بنون التوكيد لزيادة تحقيق ربط الجزاء بالشرط .
ونظيره في تكرير المؤكدات بين الشرط وجوابه قول الأعشى : .
إما ترينا حفاة لا نعال لنا ... إنا كذلك ما نحفى وننتعل أي فاعلمي حقا أنا نحفى تارة وننتعل اخرى لأجل ذلك أي لأجل إخفاء الخطى لا للأجل وجدان نعل مرة وفقدانها أخرى كحال أهل الخصاصة .
وقد تقدم في قوله ( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ ) في آخر الأعراف .
والمعنى : إذا كان ما يوعدون حاصلا في حياتي فأنا أدعوكم أن لا تجعلوني فيهم حينئذ .
واستعمال حرف الظرفية من قوله ( في القوم الظالمين ) يشير إلى أنه أمر ان يسأل الكون في موضع غير موضع المشركين وقد تحقق ذلك بالهجرة إلى المدينة فالظرفية هنا حقيقية أي بينهم .
والخبر الذي هو قوله ( وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون ) مستعمل في إيجاد الرجاء بحصول وعيد المكذبين في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وإلا فلا حاجة إلى إعلام الرسول بقدرة الله على ذلك .
وفي قوله ( أن نريك ) إيماء إلى أنه في منجاة من أن يلحقه ما يوعدون به وأنه سيراه مرأى عين دون كون فيه . وقد يبدو أن هذا وعد غريب لأن المتعارف أن يكون العذاب سماويا فإذا نجى الله منه بعض رسله مثل لوط فإنه يبعده عن موضع العذاب ولكن كان عذاب هؤلاء غير سماوي فتحقق في مصرع صناديدهم يوم بدر بمرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقف رسول الله على القليب قليب بدر وناداهم بأسمائهم واحدا واحدا وقال لهم ( لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا ) . وبهذا القصد يظهر موقعي حرفي التأكيد ( إن ) واللام من إصابة محز الإعجاز .
( ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون [ 96 ] ) لما أنبأ الله رسوله E بما يلمح له بأنه منجز وعيده من الذين كذبوه فعلم الرسول والمسلمون أن الله ضمن لهم النصر أعقب ذلك بأن أمره بأن يدفع مكذبيه بالتي هي أحسن وأن لا يضيق بتكذيبهم صدره فلذلك دفع السيئة بالحسنة كما هو أدب الإسلام . وسيأتي بيانه في سورة فصلت عند قوله ( ادفع بالتي هي أحسن ) .
وقوله ( نحن أعلم بما يصفون ) خبر مستعمل كناية عن كون الله يعامل أصحاب الإساءة لرسوله بما هم أحقاء به من العقاب لأن الذي هو أعلم بالأحوال يجري عمله على مناسب تلك الأحوال بالعدل وفي هذا تطمين لنفس الرسول صلى الله عليه وسلم .
وحذف مفعول ( يصفون ) وتقديره : بما يصفونك أي مما يضيق به صدرك وذلك تعهد بأنه يجازيهم على ما يعلم منهم فرب أحد يبدو منه السوء ينطوي ضميره على بعض الخير فقد كان فيهم من يحدب على النبي في نفسه ورب أحد هو بعكسه كما قال تعالى ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام ) .
و ( التي هي أحسن ) مراد بها الحسنة الكاملة فاسم التفضيل للمبالغة مثل قوله ( السجن أحب إلي ) .
A E