أولهما أن يكون كل إله مختصا بمخلوقاته فلا يتصرف فيها غيره من الآلهة ولا يتصرف هو في مخلوقات غيره فيقتضي ذلك أن كل إله من الآلهة عاجز عن التصرف في مخلوقات غيره . وهذا يستلزم المحال لأن العجز نقص والنقص ينافي حقيقية الإلهية . وهذا دليل برهاني على الوحدانية لأنه أدى إلى استحالة ضدها . فهذا معنى قوله تعالى ( لذهب كل إله بما خلق ) .
وثاني اللازمين أن تصير مخلوقات بعض الآلهة أوفر أو أقوى من مخلوقات إله آخر بعوارض تقتضي ذلك من آثار الأعمال النفسانية وآثار الأقطار والحوادث كما هو المشاهد في اختلاف أحوال مخلوقات الله تعالى الواحد فلا جرم أن ذلك يفضي إلى اعتزاز الإله الذي تفوقت مخلوقاته على الإله الذي تنحط مخلوقاته وهذا يقتضي أن يصير بعض تلك الإلهة أقوى من بعض وهو مناف للمساواة في الإلهية . وهذا معنى قوله تعالى ( ولعلا بعضهم على بعض ) .
وهذا الثاني بناء على المعتاد من لوازم الإلهية في أنظار المفكرين وإلا فيجوز اتفاق الآلهة على أن لا يخلقوا مخلوقات قابلة للتفاوت بأن لا يخلقوا إلا حجارة أو حديدا مثلا : إلا أن هذا ينافي الواقع في المخلوقات .
ويجوز اتفاق الآلهة أيضا على أن لا يعتز بعضهم على بعض بسبب تفاوت ملكوت كل على ملكوت الآخر بناء على ما اتصفوا به من الحكمة المتماثلة التي تعصمهم عن صدور ما يؤدي إلى اختلال المجد الإلهي ؛ إلا أن هذا المعنى لا يخلو من المصانعة وهي مشعرة بضعف المقدرة . فبذلك كان الاستدلال الذي في هذه الآية برهانيا وهو مثل الاستدلال الذي في قوله تعالى ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) إلا أن هذا بني على بعض لزوم النقص في ذات الآلهة وهو ما لا يجوزه المردود عليهم والآخر بني على لزوم اختلال أحوال المخلوقات السماوية والأرضية وهو ما تبطله المشاهدة .
أما الدليل البرهاني الخالص على استحالة تعدد الآلهة بالذات فله مقدمات أخرى قد وفى أئمة علم الكلام بسطها بما لا رواج بعده لعقيدة الشرك . وقد أشار إلى طريقة منها المحقق عمر القزويني في هذا الموضع من حاشيته على الكشاف ولكنه انفرد بادعاء مأخوذ من الآية وليس كما ادعى . وقد ساقه الشهاب الآلوسي فإن شئت فتأمله .
ولما اقتضى هذا الدليل بطلان قولهم عقب الدليل بتنزيه الله تعالى عن أقوال المشركين بقوله تعالى ( سبحان الله عما يصفون ) وهو بمنزلة نتيجة الدليل . وما يصفونه به هو ما اختصوا بوصفهم الله به من الشركاء في الإلهية ومن تعذر البعث عليه ونحو ذلك وهو الذي جرى فيه غرض الكلام .
وإنما أتبع الاستدلال على انتفاء الشريك بقوله ( عالم الغيب والشهادة ) المراد به عموم العلم وإحاطته بكل شيء كما أفادته لام التعريف في ( الغيب والشهادة ) من الاستغراق الحقيقي أي عالم كل مغيب وكل ظاهر لدفع توهم أن يقال : إن استقلال كل إله بما خلق قد لا يفضي إلى علو بعض الآلهة على بعض لجواز أن لا يعلم أحد من الآلهة بمقدار تفاوت ملكوته على ملكوت الآخر فلا يحصل علو بعضهم على بعض لاشتغال كل إله بملكوته . ووجه الدفع أن الإله إذا جاز أن يكون غير خالق لطائفة من المخلوقات التي خلقها غيره لئلا تتداخل القدر في مقدورات واحدة لا يجوز أن يكون غير عالم بما خلقه غيره لأن صفات العلم لا تتداخل فإذا علم أحد الآلهة مقدار ملكوت شركائه فالعالم بأشدية ملكوته يعلو على من هو دونه في الملكوت فظهر أن قوله ( عالم الغيب والشهادة ) من تمام الاستدلال على انتفاء الشركاء ولذلك فرع عنه بالفاء قوله ( فتعالى عما يشركون ) .
وقرأ نافع وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر وخلف ( عالم الغيب ) برفع ( عالم ) على أنه خبر مبتدإ محذوف وهو من الحذف الشائع في الاستعمال إذا أريد الإخبار عن شيء بعد أن أجريت عليه أخبار أو صفات .
وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحفص عن عاصم ويعقوب بجر ( عالم ) على الوصف لاسم الجلالة في قوله ( سبحان الله عما يصفون ) .
و ( ما ) مصدرية . والمعنى : فتعالى عن إشراكهم أي هو أعظم من أن يكون موصوفا بكونه مشاركا في وصفه العظيم أي هو منزه من أن يكون موصوفا بكونه مشاركا في وصفه العظيم أي هو منزه عن ذلك .
A E