أتبع الاستدلال على إثبات الوحدانية لله تعالى بالاستدلال على انتفاء الشركاء له في الإلهية . وقدمت النتيجة على القياس لتجعل هي المطلوب فإن النتيجة والمطلوب متحدان في المعنى مختلفان بالاعتبار فهي باعتبار حصولها عقب القياس تسمى نتيجة وباعتبار كونها دعوى مقام عليها الدليل وهو المقياس تسمى مطلوبا كما في علم المنطق . ولتقديمها نكتة أن هذا المطلوب واضح النهوض لا يفتقر إلى دليل إلا لزيادة الاطمئنان فقوله ( ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله ) هو المطلوب وقوله ( إذا لذهب كل إله بما خلق ) إلى آخر الآية هو الدليل . وتقديم هذا المطلوب على الدليل أغنى عن التصريح بالنتيجة عقب الدليل . وذكر نفي الولد استقصاء للرد على مختلف عقائد أهل الشرك من العرب فإن منهم من توهم أنه ارتقى عن عبادة الأصنام فعبدوا الملائكة وقالوا : هم بنات الله .
وإنما قدم نفي الولد على نفي الشريك مع أن أكثر المشركين عبدة أصنام لا عبدة الملائكة نظرا إلى أن شبهة عبدة الملائكة أقوى من شبهة عبدة الأصنام لأن الملائكة غير مشاهدين فليست دلائل الحدوث بادية عليهم كالأصنام ولأن الذي زعموهم بنات الله أقرب للتمويه من الذين زعموا الحجارة شركاء لله فقد أشرنا إلى ذلك آنفا عند قوله تعالى ( قل من رب السماوات السبع ) الآية .
و ( إذن ) حرف جواب وجزاء لكلام قبلها ملفوظ أو مقدر . والكلام المجاب هنا هو ما تضمنه قوله ( وما كان معه من إله ) فالجواب ضد ذلك النفي . وإذ قد كان هذا الضد أمرا مستحيل وقوع تعين أن يقدر له شرط على وجه الفرض والتقدير والحرف المعد لمثل هذا الشرط هو ( لو ) الامتناعية فالتقدير : ولو كان معه إله لذهب كل إله بما خلق .
وبقاء اللام في صدر الكلام الواقع بعد ( إذن ) دليل على أن المقدر شرط ( لو ) لأن اللام تلزم جواب ( لو ) ولأن غالب مواقع ( إذن ) أن تكون جواب ( لو ) فلذلك جاز حذف الشرط هنا لظهور تقديره .
وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى ( إنكم إذن مثلهم ) في سورة النساء .
فقوله ( إذن لذهب كل إله بما خلق ) استدلال على امتناع أن يكون مع الله آلهة .
وإنما لم يستدل على امتناع أن يتخذ الله ولدا لأن الاستدلال على ما بعده مغن عنه لأن ما بعده أعم منه وانتفاء الأعم يقتضي انتفاء الأخص فإنه لو كان لله ولدا لكان الأولاد آلهة لأن ولد كل موجود إنما يتكون على مثل ماهية أصله كما دل عليه قوله تعالى ( قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ) أي له .
والذهاب في قوله ( لذهب كل إله ) مستعار للاستقلال بالمذهوب به وعدم مشاركة غيره له فيه . وبيان انتظام هذا الاستدلال أنه لو كان مع الله آلهة لاقتضى ذلك أن يكون الآلهة سواء في صفات الإلهية وتلك الصفات كمالات تامة فكان كل إله خالقا لمخلوقات لثبوت الموجودات الحادثة وهي مخلوقة فلا جائز أن تتوارد الآلهة على مخلوق واحد لأن ذلك : إما لعجز عن الانفراد بخلق بعض المخلوقات وهذا لا ينافي إلهية وإما تحصيل للحاصل وهو محال فتعين أن ينفرد كل إله بطائفة من المخلوقات . ولنفرض أن تكون مخلوقات كل إله مساوية لمخلوقات غيره بناء على أن الحكمة تقتضي مقدارا معينا من المخلوقات يعلمها الإله الخالق لها ؛ فتعين أن لا تكون للإله الذي لم يخلق طائفة من المخلوقات ربوبية على ما لم يخلقه وهذا يفضي إلى نقص في كل من الآلهة وهو يستلزم المحال لأن الإلهية تقتضي الكمال لا النقص . ولا جرم أن تلك المخلوقات ستكون بعد خلقها معرضة للزيادة والنقصان والقوة والضعف بحسب ما يحف بها عن عوارض الوجود التي لا تخلو عنها المخلوقات كما هو مشاهد في مخلوقات الله تعالى الواحد . ولا مناص عن ذلك لأن خالق المخلوقات أودع فيها خصائص ملازمة لها كما اقتضته حكمته فتلك المخلوقات مظاهر لخصائصها لا محالة فلا جرم أن ذلك يقتضي تفوق مخلوقات بعض الآلهة على مخلوقات بعض آخر بعوارض من التصرفات والمقارنات لازمة لذلك لا جرم يستلزم ذلك كله لازمين باطلين : A E