ولم يؤت مع هذا الاستفهام بشرط ( إن كنتم تعلمون ) ونحوه كما جاء في سابقه لأن انفراد الله تعالى بالربوية في السماوات والعرش لا يشك فيه المشركون لأنهم لم يزعموا إلهية أصنامهم في السماوات والعوالم العلوية .
وخص وعظهم عقب جوابهم بالحث على تقوى الله لأنه لما تبين من الآية التي قبلها أنهم لا يسعهم إلا الاعتراف بأن الله مالك الأرض ومن فيها وعقبت تلك الآية بحظهم على التذكير ليظهر لهم أنهم عباد الله لا عباد الأصنام . وتبين من هذه الآية أنه رب السماوات وهي أعظم من الأرض وأنهم لا يسعهم إلا الاعتراف بذلك ناسب حثهم على تقواه لأنه يستحق الطاعة له وحده وان يطيعوا رسوله فإن التقوى تتضمن طاعة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم .
وحذف مفعول ( تتقون ) لتنزيل الفعل منزلة القاصر لأنه دال على معنى خاص وهو التقوى الشاملة لامتثال المأمورات واجتناب المنهيات .
( قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون [ 88 ] سيقولون لله قل فأني تسحرون [ 89 ] ) قد عرفت آنفا نكتة تكرير القول .
والملكوت : مبالغة في الملك بضم الميم . فالملكوت : الملك المقترن بالتصرف في مختلف الأنواع والعوالم لذلك جاء بعده ( كل شيء ) .
واليد : القدرة . ومعنى ( يجير ) يغيث ويمنع من يشاء من الأذى . ومصدره الإجارة فيفيد معنى الغلبة وإذا عدي بحرف الاستعلاء أفاد أن المجرور مغلوب على أن لا ينال المجار بأذى فمعنى ( لا يجار عليه ) لا يستطيع أحد أن يمنع أحدا من عقابه فيفيد معنى العزة التامة .
وبني فعل ( يجار عليه ) للمجهول لقصد انتفاء الفعل عن كل فاعل فيفيد العموم مع الاختصار .
ولما كان تصرف الله هذا خفيا يحتاج إلى تدبر العقل لإدراكه عقب الاستفهام بقوله ( إن كنتم تعلمون ) كما عقب الاستفهام الأول بمثله حثا لهم على علمه والاهتداء إليه .
ثم عقب بما يدل على أنهم إذا تدبروا علموا فقيل ( سيقولون لله ) .
وقرأ الجمهور ( سيقولون لله ) بلام الجر داخلة على اسم الجلالة مثل سالفه . وقرأه أبو عمرو ويعقوب بدون لام وقد علمت ذلك في نظيره السابق .
( وأنى ) يجوز أن تكون بمعنى ( من أين ) كما تقدم في سورة آل عمران ( قال يا مريم أنى لك هذا ) . والاستفهام تعجيبي . والسحر مستعار لترويج الباطل بجامع تخيل ما ليس بواقع واقعا . والمعنى : فمن أين اختل شعوركم فراج عليكم الباطل . فالمراد بالسحر ترويج أئمة الكفر عليهم الباطل حتى جعلوهم كالمسحورين .
( بل أتينهم بالحق وإنهم لكاذبون [ 90 ] ) إضراب لإبطال أن يكونوا مسحورين أي بل ليس الأمر كما خيل إليهم فالذي أتيناهم به الحق يعني القرآن . والباء للتعدية كما يقال : ذهب به . أي أذهبه . وهذا كقوله آنفا ( بل أتيناهم بذكرهم ) .
والعدول عن الخطاب من قوله ( فأنى تسحرون ) إلى الغيبة التفات لأنهم الموجه إليهم الكلام في هذه الجملة . والحق هنا : الصدق فلذلك قوبل بنسبتهم إلى الكذب فيما رموا به القرءان من قولهم ( إن هذا إلا أساطير الأولين ) .
وفي مقابلة الحق ب ( كاذبون ) محسن الطباق .
وتأكيد نسبتهم إلى الكذب ب ( إن ) واللام لتحقيق الخبر .
وقد سلكت في ترتيب هذه الأدلة طريقة الترقي ؛ فابتدئ بالسؤال عن مالك الأرض ومن فيها لأنها أقرب العوالم لإدراك المخاطبين ثم ارتقى إلى الاستدلال بربوبية السماوات والعرش ثم ارتقي إلى ما هو أعم وأشمل وهو تصرفه المطلق في الأشياء كلها ولذلك اجتلبت فيه أداة العموم وهي ( كل ) .
( ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحن الله عما يصفون [ 91 ] علم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون [ 92 ] ) A E