والإشارة في قوله ( لقد وعدنا هذا ) إلى ما تقدم في قولهم ( أإذا متنا ) إلى آخره أي هذا المذكور من الكلام . وكذلك اسم الإشارة الثاني ( إن هذا إلا أساطير الأولين ) . وصيغة القصر بمعنى : هذا منحصر في كونه من حكايات الأولين . وهو قصر إضافي لا يعدو كونه من الأساطير إلى كونه واقعا كما زعم المدعون .
والعدول عن الإضمار إلى اسم الإشارة الثاني لقصد زيادة تمييزه تشهيرا بخطئه في زعمهم .
والأساطير : جمع أسطورة وهي الخبر الكاذب الذي يكسى صفة الواقع مثل الخرافات والروايات الوهمية لقصد التلهي بها . وبناء الأفعولة يغلب فيما يراد به التلهي مثل : الأعجوبة والأضحوكة والأرجوحة والأحدوثة وقد مضى قريبا .
( قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون [ 84 ] سيقولون لله قل أفلا تذكرون [ 85 ] ) استئناف استدلال عليهم في إثبات الوحدانية لله تعالى عاد به الكلام متصلا بقوله ( وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون ) .
والاستفهام تقريري أي أجيبوا عن هذا ولا يسعهم إلا الجواب بأنها لله . والمقصود : إثبات لازم جوابهم وهو انفراده تعالى بالوحدانية .
و ( إن كنتم تعلمون ) شرط حذف جوابه لدلالة الاستفهام عليه تقديره : فأجيبوني عن السؤال . وفي هذا الشرط توجيه لعقولهم أن يتأملوا فيظهر لهم أن الأرض لله وأن من فيها لله فإن كون جميع ذلك لله قد يخفى لأن الناس اعتادوا نسبة المسببات إلى أسبابها المقارنة والتصرفات إلى مباشريها فنبهوا بقوله ( إن كنتم تعلمون ) إلى التأمل أي إن كنتم تعلمون علم اليقين ولذلك عقب بقوله ( سيقولون لله ) أي يجيبون عقب التأمل جوابا غير بطيء . وانظر ما تقدم في تفسير قوله تعالى ( قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله ) في سورة الأنعام .
ووقعت جملة ( قل أفلا تذكرون ) جوابا لإقرارهم واعترافهم بأنها لله . والاستفهام إنكاري إنكار لعدم تذكيرهم بذلك أي تفطن عقولهم لدلالة ذلك على انفراده تعالى بالإلهية . وخص بالتذكر لما في بعضه من خفاء الدلالة والاحتياج إلى النظر .
( قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم [ 86 ] سيقولون لله قل أفلا تتقون [ 87 ] ) تكرير الأمر بالقول وإن كان المقول مختلفا دون أن تعطف جملة ( من رب السماوات ) لأنها وقعت في سياق التعداد فناسب أن يعاد الأمر بالقول دون الاستغناء بحرف العطف . والمقصود وقوع هذه الأسئلة متتابعة دفعا أهم بالحجة ولذلك لم تعد في السؤالين الثاني والثالث جملة ( إن كنتم تعلمون ) اكتفاء بالافتتاح بها .
وقرأ الجمهور ( سيقولون لله ) بلام جارة لاسم الجلالة على أنه حكاية لجوابهم المتوقع بمعناه لا بلفظه لأنهم لما سئلوا ب ( من ) التي هي للاستفهام عن تعيين ذات المستفهم عنه كان مقتضى الاستعمال أن يكون الجواب بذكر اسم ذات المسؤول عنه فكان العدول عن ذلك إلى الجواب عن كون السماوات السبع والعرش مملوكة لله عدولا إلى جانب المعنى دون اللفظ مراعاة لكون المستفهم عنه لوحظ بوصف الربوبية والربوبية تقتضي الملك . ونظير هذا الاستعمال ما أنشده القرطبي وصاحب المطلع : .
إذا قيل : من رب المزالف والقرى ... ورب الجياد الجرد ؟ قلت : لخالد ولم أقف على من سبقهما بذكر هذا البيت ولعلهما أخذاه من تفسير الزجاج ولم يعزواه إلى قائل ولعل قائله حذا به حذو استعمال الآية .
وأقول : إن الأجدر أن نبين وجه صوغ الآية بهذا الأسلوب فأرى أن ذلك لقصد التعريض بأنهم يحترزون عن أن يقولوا : رب السماوات السبع الله لأنهم أثبتوا مع الله أربابا في السماوات إذ عبدوا الملائكة فهم عدلوا عما فيه نفي الربوبية عن معبوداتهم واقتصروا على الإقرار بأن السماوات ملك لله لأن ذلك لا يبطل أوهام شركهم من أصلها ؛ ألا ترى أنهم يقولون في التلبية في الحج ( لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك ) . ففي حكاية جوابهم بهذا اللفظ تورك عليهم ولذلك ذيل حكاية جوابهم بالإنكار عليهم انتفاء اتقائهم الله تعالى .
وقرأه أبو عمرو ويعقوب ( سيقولون الله ) بدون لام الجر وهو كذلك في مصحف البصرة وبذلك كان اسم الجلالة مرفوعا على أنه خبر ( من ) في قوله ( من رب السماوات ) والمعنى واحد .
A E