هذا رجوع إلى غرض الاستدلال على انفراد الله تعالى بصفات الإلهية والامتنان بما منح الناس من نعمة لعلهم يشكرون بتخصيصه بالعبادة وذلك قد انتقل عنه من قوله ( وعليها وعلى الفلك تحملون ) فانتقل إلى الاعتبار بآية فلك نوح عليه السلام فأتبع بالاعتبار بقصص أقوام الرسل عقب قوله تعالى ( وعليها وعلى الفلك تحملون ) فالجملة إما معطوفة على جملة ( وإن لكم في الأنعام لعبرة ) والغرض واحد وما بينهما انتقالات .
وإما مستأنفة رجوعا إلى غرض الاستدلال والامتنان وقد تقدمت الإشارة إلى هذا عند قوله تعالى ( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه ) .
وفي هذا الانتقال من أسلوب إلى أسلوب ثم الرجوع إلى الغرض تجديد لنشاط الذهن وتحريك للإصغاء إلى الكلام وهو من أساليب كلام العرب في خطبهم وطوالهم . وسماه السكاكي : قرى الأرواح وجعله من آثار كرم العرب .
وقوله ( وهو الذي أنشأ لكم السمع ) تذكير بواحدانية الله تعالى .
والأظهر أن يكون ضمير الجلالة مسندا واسم الموصول مسندا إليه لأنهم علموا أن منشئا أنشأ لهم السمع والأبصار فصاحب الصلة هو الأولى بأن يعتبر مسندا إليه وهم لما عبدوا غيره نزلوا منزلة من جهل أنه الذي أنشأ لهم السمع فأتى لهم بكلام مفيد لقصر القلب أو الإفراد أي الله الذي أنشأ ذلك دون أصنامكم . والخطاب للمشركين على طريقة الالتفات أو لجميع الناس أو للمسلمين والمقصود منه التعريض بالمشركين .
والإنشاء : الإحداث أي الإيجاد .
وجمع الأبصار والأفئدة باعتبار تعدد أصحابها . وأما إفراد السمع فجرى على الأصل في إفراد المصدر لأن أصل السمع أنه مصدر . وقيل : الجمع باعتبار المتعلقات فلما كان البصر يتعلق بأنواع كثيرة من الموجودات وكانت العقول تدرك أجناسا وأنواعا جمعا بهذا الاعتبار . وأفراد السمع لأنه لا يتعلق إلا بنوع واحد وهو الأصوات .
وانتصب ( قليلا ) عل الحال من ضمير ( لكم ) . ( وما ) مصدرية . والتقدير : في حال كونكم قليلا شكركم . فإن كان الخطاب للمشركين فالشكر مراد به التوحيد أي فالشكر الصادر منكم قليل بالنسبة إلى تشريككم غيره معه في العبادة ؛ وإن كان الخطاب لجميع الناس فالشكر عام في كل شكر نعمة وهو قليل بالنسبة لقلة عدد الشاكرين لأن أكثر الناس مشركون كما قال تعالى ( ولا تجد أكثرهم شاكرين ) . وإن كان الخطاب للمسلمين والمقصود التعريض بالمشركين فالشكر عام وتقليله تحريض على الاستزادة منه ونبذ الشرك .
( وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون [ 79 ] ) هو على شاكلة قوله ( وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار ) .
والذرء : البث . وتقدم في سورة الأنعام . وهذا امتنان بنعمة الإيجاد والحياة وتيسير التمكن من الأرض وإكثار النوع لأن الذرء يستلزم ذلك كله . وهذا استدلال آخر على انفراد الله تعالى بالإلهية إذ قد علموا أنه لا شريك له في الخلق فكيف يشركون معه الإلهية أصنافا هم يعلمون أنها لا تخلق شيئا وهو أيضا استدلال على البعث لأن الذي أحيا الناس عن عدم قادر على إعادة إحيائهم بعد تقطع أوصالهم .
وقوبل الذرء بضده وهو الحشر والجمع فإن الحشر يجمع كل من كان على الأرض من البشر وفيه محسن الطباق .
والمقصود من هذه المقابلة الرد على منكري البعث فتقديم المجرور في ( إليه تحشرون ) تعريض بالتهديد بأنهم محشورون إلى الله فهو يجازيهم .
( وهو الذي يحي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون [ 80 ] ) هو من أسلوب ( وهو الذي أنشأ لكم السمع ) . وأعقب ذكر الحشر بذكر الإحياء لأن إحياء إدماجا للاستدلال على إمكان البعث في الاستدلال على عموم التصرف في العالم .
وأما ذكر الإماتة فلمناسبة التضاد ولأن فيها دلالة على عظيم القدرة والقهر . ولما كان من الإحياء خلق الإيقاض ومن الإماتة خلق النوم كما قال تعالى ( الله يتوفى الأنفس حين موتها ) الآية عطف على ذلك أن بقدرته اختلاف الليل والنهار لتلك المناسبة ولأن في تصريف الليل والنهار دلالة على عظيم القدرة والعلم دلالة على الانفراد بصفات الإلهية وعلى وقوع البعث كما قال تعالى ( كما بدأكم تعودون ) .
A E